شجاعة التعبير عن الرأي
إن من أهم أزمات مجتمعاتنا أزمة التعبير عن الرأي، حيث يتواطأ الاستبداد السياسي، والتشدد الديني، والتخلف الاجتماعي، لقمع أي رأي آخر، وأي وجهة نظر مخالفة.
وفي ظل أجواء القمع والإرهاب الفكري تتوقف حركة الإبداع ومسيرة التطوير، ولا تقدم لأمة لا تتجاوز هذه العقبة الكأداء.
ولكن تاريخ الأمم والشعوب يؤكد أن حرية الرأي لا تُعطى بقرار، وإنما تُنتزع بممارسة شجاعة، تدفع الثمن وتقدم التضحيات.
إن مواجهة الإرهاب الفكري تتطلب وجود مفكّرين أحرار، يتمسكون بحقهم في التعبير عن آرائهم، ويقاومون ضغوط الترهيب والترغيب.
ومثل هؤلاء المفكرين يصبحون منارات هادية يضيئون لمجتمعاتهم طريق الحرية والتقدم.
وواجب المتطلعين للتغيير والتجديد إحياء ذكر أبطال الحرية الفكرية، ورواد الإصلاح، ليكونوا مصدر إلهام وتحفيز لأجيال الأمة.
وأن علينا أن نتضامن مع من يمارس هذه الحرية في حياته، لا أن نتفرج على معاناته ثم نكرّمه بعد وفاته.
إن تأييد حرية الرأي لا تعني التسليم بصحة كل رأي يُطرح، فالرأي يحتمل الصواب والخطأ، وإظهار الرأي يُعطي الفرصة لنقده وتبيين مواقع الخطأ فيه، أو يدفع للأخذ به والاستفادة منه إن كان صواباً.
يتكون الرأي عند الإنسان حول أي قضية من قضايا المعرفة والحياة إذا اتجه بفكره نحوها، واجتهد في فهمها، حيث منح الله تعالى الإنسان قدرة عقلية خارقة، تمكنه من معرفة الأسماء كلها، أي المعاني والمسميات، كما يقول تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾.
فالكون والحياة كتاب مفتاح أمام عقل الإنسان، يحتاج لفهم أي سطر من سطوره إلى تركيز الفكر، وإمعان النظر، وبذل الجهد.
لكن مشكلة الإنسان تكمن في غفلته عن قدراته وإمكاناته التي ينطوي عليها، وفي انشغاله ولهوه ببعض المغريات والمكاسب الضئيلة، ثم في حالة الكسل والخمول التي تعوقه عن التقدم والانجاز.
إن معظم أفراد البشر لا يجدون أنفسهم معنيين بالتفكير فيما حولهم، ويكتفون باجترار الأفكار المتداولة، والقبول بها كمسلمات وثوابت لا يمكن تجاوزها.
ولا يقتصر هذا الحال على عامة الناس، بل هو داء تعاني منه حتى النخب الاجتماعية التي يفترض فيها التخصص في اهتماماتها العلمية أو العملية.
لكن معظم أفراد هذه النخب لا يهتم بأن يصنع لنفسه رأياً، ولا يجد نفسه مؤهلاً لإعادة النظر في شيءٍ من الآراء السائدة.
وبهذا تستمر حالة التخلف والركود، وتنعدم فرص التقدم والتطوير.
إن الحاجة ماسة إلى تشجيع صناعة الرأي، خاصة في الأوساط العلمية والثقافية، وتجاوز حالة الركود، وتوارث الآراء، واجترار الأفكار.
إن أهم وأول عائق يواجه الإنسان في مجال الإبداع الفكري، هو الرهبة الداخلية الناشئة من ضعف الثقة بالذات، والوقوع تحت تأثير الانبهار بشخصيات أخرى ذات قداسة ونفوذ، تصبح سقوفاً تمنع انطلاق التفكير.
ثم تواجه الإنسان عوائق خارجية في محيطه الاجتماعي، تقمع لديه حرية التعبير عن رأيه، وتضعف حماسه لإنتاج رأي جديد.
وتتجذر هذه المشكلة بصورة أعمق في ساحة المعرفة الدينية، التي تعاني في معظم نواحيها من ركود مزمن، وتتصلب فيها عوائق الإبداع والتطوير.
إن حقل المعرفة الدينية كأيِّ حقل آخر من حقول المعرفة والعلم، يعتمد في تطوره وتقدمه على إعمال الفكر والنظر، وتراكم الخبرة والتجربة، وعلى التجديد والإبداع.
من هنا كان باب الاجتهاد في الدين ضمن ضوابطه العلمية مفتوحاً على مساحة الزمن كله، أمام جميع أجيال البشر، لا يحتكره قرن من القرون، ولا يختص بعصر من العصور.
كانت المعارف الدينية محدودة في عصرها الأول، ثم اتسعت مع تطور حياة الأمة، واتساع رقعة الإسلام، وانفتاح المسلمين على سائر الأمم والشعوب، وهكذا تواصلت مسيرة النمو والتقدم في المعرفة الدينية.
لكن هذه المسيرة عانت من الركود وطول التوقف في الكثير من محطات الزمن تبعاً لواقع حال الأمة.
فقد تأثرت حركة المعرفة الدينية بواقع الاستبداد السياسي، وحال التخلف الاجتماعي، حيث شُلّت فاعليتها، وتراجع إنتاجها، وتغيّرت وظيفتها أحياناً كثيرة، من مواجهة الاستبداد والتخلف، إلى تبريره وشرعنته.
وكان من أخطر آثار هذه الحال توقف حركة الإبداع والتطوير، والتمسك بالموروث دون تحقيق وتمحيص، وإضفاء القداسة على آراء السلف، وتجريم أي مخالفة لرأي المشهور.
إن الأجواء السائدة في معظم الأوساط العلمية لا تشجع على ممارسة العملية الاجتهادية ضمن إطارها العلمي بحرية وانطلاق، بل تكبّل حركتها بقيود ثقيلة من الأعراف والتقاليد، واحترام آراء القوى النافذة، وعدم تجاوز طروحاتها التقليدية.
وحين يتمرد باحث على تلك الأجواء الضاغطة، تُتخذ بحقه إجراءات قاسية، تبدأ من التشكيك في الكفاءة العلمية، إلى الاتهام في الدين، وصولاً إلى إسقاط الشخصية والعزل الاجتماعي.
وقد واجه عدد من العلماء المصلحين حملات شعواء تستهدف شخصياتهم، من قبل أوساط دينية، بجرم التعبير عن رأي آخر، في مجال العقيدة أو الفقه، أو سائر مجالات المعرفة الدينية.
إن هذه الأجواء القامعة هي المسؤولة عن ركود حركة المعرفة، وتوقف مسيرة التطوير والتغيير في ساحتها.
ويجب أن نقف إجلالاً وإكباراً لأولئك العلماء الأبطال الذين واجهوا ظروف الإرهاب الفكري، وتحلّوا بالشجاعة والبسالة، في التعبير عن آرائهم وقناعاتهم التي توصلوا إليها من مداركها الشرعية وفق اجتهادهم.