سبعة أيام في الشرقية.. من (سَنابِس والقَارَة).. إلى (مَنهاتن والنَّفق)..؟!!
اخترت هذا العام، المنطقة الشرقية لقضاء إجازة عيد الأضحى المبارك. أخذت سيارة أجرة من مطار الملك فهد إلى حيث سكني في الدمام، ما إن غادرني سائق الأجرة، حتى وجدت نفسي أمام معضلة عدم الفهم مرتين. مرة حيال نفق (المدخل الشرقي للدمام)، ومرة أخرى، حيال القول ب(كذبة غزوة منهاتن)..!
تعالوا نرجئ ما استعصى على الفهم من هذين المشكلين، إلى نهاية المقال.
عندما تتجول في محافظات ومدن المنطقة الشرقية، سوف تشعر أنك تتحرك وسط مجتمع منفتح إلى حد ما، ومتسامح مع ذاته ومع غيره نوعاً ما، ومختلف عن سواه في مناطق المملكة الأخرى بقدر واضح. ظننت أني وحدي في هذا الشعور تجاه المجتمع الشرقاوي بشك عام، حتى لقيت أكثر من واحد من زوار الساحل الشرقي يشاركني فيه، فلولا شكوى تصدر من هنا وهناك، تتحدث عن قفل غير مبرر لبعض المتنزهات على الكورنيش، وتدخلات من جهات رسمية، تمارس فرزاً اجتماعياً غير مبرر هو الآخر، وقد يطال الرجل وزوجته وبناته وأهله كما حدثني أحد الأصدقاء، وأن الشباب لا مكان لهم في عدة متنزهات على كورنيش مدن هذه المنطقة إلا ما ندر، لولا ذلك.. لعدت الشرقية في طليعة المناطق التي توفر كل الراحة لزوارها.
هناك أسباب كثيرة وراء هذه الصورة الحضارية المتقدمة لمجتمع الشرقية، منها قدم وعراقة هجر والمشقر وتاروت والعقير وغيرها، وسهولة الاتصال والتواصل الذي وفرها البحر لشرقي الجزيرة العربية مع حضارات شرقية وغربية، والتقاء أكثر من ثقافة عالمية هنا، قبل النفط وبعد النفط.
قضيت سبعة أيام، متجولاً بين محافظات ومدن المنطقة الشرقية، صحبة الابن المهندس أكرم، فزرت ابتداءً محافظة القطيف، التي هي عبارة عن عدة مدن متداخلة في بعضها. مجلس الشيخ (حسن موسى الصفار)، جمعني بعدد من أعيان وأدباء القطيف. والقطيف بأبنائها الكرام، تضيف لزائريها الكثير مما يرسخ في الذاكرة، فمجالس الشيخ الصفار، وندوات وملتقيات أدباء القطيف، تضفي الكثير من الألق على مجتمعها، وتأتي المهرجانات التي ينظمها أهالي القطيف في الأعياد والمناسبات الوطنية، لتبرز الصورة المبهجة في هذا الجزء العزيز من الوطن الغالي.
هذا العام.. أخذت مدينة (سنابس) - التي هي جزء من جزيرة تاروت - دورها، فنظمت أكبر مهرجان تسويقي سياحي تراثي شعبي تحت عنوان (الدوخلة)، والدوخلة كما يعرفها المؤرخ (علي الدرورة)، تقليد اجتماعي يرتبط بالحج والحجاج، وقد أصبحت علامة على نشاط ثقافي واسع، ينظمه أبناء وبنات القطيف على مدى ستة أيام، ويقدم فعاليات فنية ومسرحية ورياضية، إلى جانب استحضار حِرف الماضي وعاداته وتقاليده وحياته، والأجمل في مهرجان (الدوخلة)، هو تنظيم ورش دراسية محفزة، تعليم الخط العربي، والرسم والتصوير والحناء، وغيرها مما يوفر للكبار والصغار والفتيان والفتيات، فرصة لا تعوض لإتقان هذه الفنون العريقة.
احتجت إلى يومين لزيارة المهرجان والتعرف على فنونه الجميلة، وعروضه الشائقة، وقد رأيت في المنظمين والإداريين، الأنموذج الجيد الذي يمثل ويخدم مجتمعه كما ينبغي، إن إدارة مهرجان بهذا الحجم، تحتاج إلى مثل هؤلاء النخبة، ممن يؤثرون على أنفسهم من أجل مجتمعهم، فهم يعرفون كيف يجعلون زوار المهرجان في قلب المجتمع القطيفي، المجتمع الذي جُبل على العمل الجماعي وحب الناس. رأيت كيف استطاع شباب هذه المحافظة، الخروج بكنوزهم الحضارية والتاريخية والأدبية والشعبية والحرفية، إلى عيون آلاف الناس الذين يتزاحمون كل يوم أمام فعاليات لا عد لها ولا حصر.. شكراً ل(سنابس)، فقد شجعت زوار الشرقية، على الغوص في أعماق هذا المهرجان، وشكراً لكل القائمين على إدارة (الدوخلة).. شكراً للشاعر والأديب (على الدرورة)، وشكراً للأستاذة الفنانة (حميدة سنان)، ولكافة أعضاء وعضوات إدارة المهرجان، لأنهم يعملون بإخلاص وجد وحب، فلا يعتريهم بعد ذلك لا كلل ولا ملل.
قبل مغادرة الشرقية بيوم واحد، كنت في محافظة الأحساء، وهي من كبريات محافظات المملكة مساحة وسكاناً، لا يماثلها سوى محافظة الطائف.
المجتمع الحساوي، من أكثر مجتمعات المملكة على الإطلاق، عناية بالأدب، واهتماماً بالثقافة، ولهذا عرفت الأحساء، بكثرة عدد منتدياتها الأدبية الخاصة، حتى حظيت قبل عام، بناد أدبي ثقافي، لم تترسخ قدماه بعد في أرض النخيل، مع أن معالم سوق المشقر، تكاد تشرف على أرض الأحساء بالكامل.
كان الزميل الأديب (محمد الجلواح)، عضو مجلس إدارة نادي الأحساء الأدبي، صاحب الفضل في تحفيزي ودعوتي إلى أن ألتقي عدداً من أدباء ومثقفي وفناني محافظة الأحساء في دارته بالقارة.
وكعادة أهل الأحساء، في التعاطي مع الأدب في مجالسهم، كان حديث خلافات.. أو لنقل تداعيات انتخابات نادي الأحساء، في طليعة الأحاديث، وكان عضواه الشاعران النشطان، محمد الجلواح ومحمد الحرز، هما دائماً في موقف المدافع عن قضية مستقبل هذا النادي الوليد. الأمر لم يخلُ من مداخلات وطرائف وتحف أدبية وفنية، فالدكتور سلطان القحطاني، له قضية مع جماهير المحاضرين في الأندية، ليست بدايتها ولا نهايتها نادي الباحة الأدبي. والأساتذة: أحمد المغلوث وحسين العلي وسامي الجمعان، يقفزون بنا إلى منصة الفن التشكيلي والشعبي تارة بعد تارة، ويوسف الحسن، وعبد الله الشايب، مثل صالح بوحنية وأنا وآخرين، كنا نرجح كفة هذا الفريق على ذاك، لنهبط بها مرة أخرى لصالح ذاك... وهكذا دواليك.
قبل مغادرة هذه الأجواء الثقافية في الشرقية، أعود معكم وبكم إلى البداية.. ركبت مع سائق أجرة من المطار إلى قلب الدمام. أخذ صاحبي يتحدث وأنا أستمع إليه طيلة ثلاثة أرباع الساعة تقريباً. لم أزد على قولي: نعم.. صحيح.. عجيب.. كيف.. ماذا.. لماذا.. متى.. وهكذا.
يبدو أن طريقتي في الرد، راقت لسائق مرح وعلى اطلاع جيد، وله بطبيعة الحال مثل غيره، قناعاته الخاصة، وتحليلاته التي تتناسب معها. تنقل في الكلام على سجيته من موضوع لآخر، وفتح معي موضوع الإرهاب والتفجيرات، كلما مر على مكان شهد حوادث سابقة من هذا القبيل، وما تعرضت له منطقته من ويلات هذا الداء قبل عدة أعوام، لكنه قفز إلى هناك.. إلى نيويورك، وإلى منهاتن تحديداً، وقطع أمامي أن ما وقع لم يكن غزوة مباركة ولا غير مباركة كما يدعيها أنصار القاعدة، بل كذبة كبيرة. كيف؟ قلت. قال: أمريكا نفسها دبرت التفجير، لأن البرجين منتهيا الصلاحية، وكان مقرراً هدمهما بعد عامين أو أقل، واليهود لم يباشروا أعمالهم في ذلك اليوم المشئوم. قلت: ولكن.. ابن لادن والظواهري يقولان غير هذا. قال: يكذبان.. إنها كذبة كبرى.. ابن لادن نمر من ورق، والظواهري مثله. قلت: والمفجرون السعوديون أين هم..؟ قال: تحتفظ بهم أمريكا. ثم أضاف: تصور.. لو ظهرت الحقيقة ذات يوم، واكتشف المخدوعون بابن لادن أنه دجال كذاب..؟! قلت: ما تصورك أنت..؟ قال: مصيبة.. مصيبة كبيرة لكافة المخدوعين.
لم يوقف الحديث حول مصيبة منهاتن سوى مرورنا بقرب نفق متسلخ من الداخل بشكل فاضح... قال لي: احذر أن تدخل من هذا النفق وأنت هنا.. هذا نفق المدخل الشرقي للدمام. أسوأ مشروع في المدينة، لم يمض على تنفيذه سوى أعوام قليلة، وهو يخضع باستمرار لعمليات جراحية، لأن مياه المجاري تنز من فوقه ومن تحته ومن جوانبه، وسطوحه تتسلخ وتتساقط على المارة، وأرضيته مشققة، وإذا غمره الماء، استحال إلى بحيرة وعطل الحركة، وقبل شهر ونيف، سقط سقف منه على عامل صيانة فمات.
في نهاية المطاف.. أعلن وأنا بكامل قواي العقلية، أنه قد استعصى علي حقاً، فهم الطريقة التي أقيم بها هذا النفق، والطريقة التي يعمل بها هذا النفق، والإصرار على بقائه يعمل بهذا الشكل. تماماً.. مثل ما استعصى علي كذلك، فهم كذبة غزوة منهاتن هناك في نيويورك.