التعصب مانعا للتقريب والوحدة
التعصب داء وبيل، ما أصاب أمة من الأمم إلا قطع أوصالها، وأفسد علاقاتها، وكان سبيلا لكل تفرق وتشرذم، فهو آفة تصيب العقل فتجعله أسير الأوهام، وتصيب البصر فتجعله يصاب بعشى فكري، وتصيب الوجدان فتجعله يوجه العاطفة في غير مكانها الصحيح.
وقد تأملت في موانع التقريب والوحدة، فوجدت من أخطرها "مانع التعصب"، فوقفت في هذا البحث على موقف الإسلام من التعصب، ومظاهر التعصب، والأسباب التي تؤدي إليه وتنشئه في بيئاتنا الثقافية والدينية، ثم تلمست أسباب العلاج من هذا الداء الوبيل.
- مظاهر التعصب
- أسباب التعصب
- علاج التعصب
للتعصب مظاهر كثيرة، تدل على وجود هذا الداء في الإنسان الذي يمارس هذه المظاهر، سواء كانت مجتمعة فيه أم متفرقة، ومن هذه المظاهر:
من أخطر مظاهر التعصب التي نعاني منها في حياتنا الفكرية والدينية "فرض المذاهب على الآخرين"، أو التضييق عليهم في مذاهبهم، وإغراؤهم باتباع مذهب معين، أو إجبارهم عليه، والإسلام دين لا يجب فيه اتباع مذهب بعينه، بل المسلم يتعبد إلى الله باتباع الكتاب والسنة، وليس باتباع فهم إمام معين من الأئمة، وإلا فماذا كان مذهب الصحابة والتابعين، وأي إمام اتبعوا سوى إمام المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم؟ كما أن الله لم يتعبد الإنسان في الآراء المختلف فيها، إلا بما يصل إليه اجتهاد الإنسان، وبقناعاته هو، ولكن عوام الناس لا يستطيع الكثير منهم أن يصل إلى معرفة الحكم الشرعي، وصحة التعبد إلا عن طريق سؤال أهل العلم، أو تقليد مذهب من المذاهب المتبوعة، وهذا أمر متروك لحرية الاتباع، ولا يجوز لأحد أن يجبر أحدا على تبني مذهب بعينه، سواء كان الذي يجبر الناس أفرادا أم حكاما، ورضي الله عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس، الذي أبى أن يفرض موطأه على الناس بأمر من الخليفة، ليرسخ معنى حرية اختيار المذاهب بين الناس، وخاصة عند أهل السلطة.
نعم من حق الدول والأكثريات فيها أن يكون لها مذهب عام، لكن ليس من حقها فرض هذا المذهب الذي تبنته على الآخرين من الأقليات التي تحيا في كنف الأغلبية، بل تتركهم وحريتهم، فهل معنى أن تكون هناك أغلبية سنية في دولة أن تفرض مذهبا على الشيعة، أو على سنة أهل البلد بأن تتبنى الدولة مذهبا بعينه، وتمنع التمذهب ببقية مذاهب السنة؟ أو العكس في دولة أغلبها شيعة هل يحق لها أن تلغي مذاهب السنة، أو تتبنى مذهبا شيعيا وتلغي بقية المذاهب الشيعية؟
كان ذلك برغم أن الإسلام بسماحته وعدله سمح لغير المسلمين بوجود شريعتهم ومذاهبهم الخاصة، ومنع من التدخل في شئونهم الدينية، ومن مفاخر تراثنا في الحضارة الإسلامية أن وجدت كتب عنيت بالكتابة في التشريع الخاص باليهود والنصارى، فرأينا كتاب (المجموع الصفوي) لابن العسال، وهو كتاب في التشريع اليهودي، وكتاب (الأحكام الشرعية في الأحوال الشرعية) وكتاب (الخلاصة القانونية) وهما في التشريع المسيحي. وتركت الخلافة الإسلامية لغير المسلمين الحق في تعيين رئيسهم الديني، وترك الحرية التامة لهم في شئونهم الدينية الخاصة، وأحكام الأحوال الشخصية.
فعلى الأغلبية أيا كان مذهبها وديانتها أن تراعي حقوق الأقلية، وعلى الأقلية أن تحترم الأغلبية وقانونها ومذهبها، وهذه هي أبجديات التعايش السلمي في المجتمعات.
والجبر على التزام مذهب لم يقتنع به الإنسان هو لون من القهر الذي يأباه الشرع، ولو كان الجبر على التزام رأي في قضايا فرعية جائزا لكان من باب أولى تبني الشرع لإلزام الناس بما ليس محل اختلاف، كالإيمان بإله واحد، وإفراده بالوحدانية، إلى آخر الأمور التي هي من أركان الدين وفرائضه، ولأكرههم على الإيمان بدين واحد هو الإسلام، ومع ذلك رأينا القرآن ينهى عن إكراه الناس على الدين، وإخراجهم من أديانهم كرها، حتى لو كان من دين باطل إلى دين الحق الإسلام: ﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: 99)، ويقول تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة: 256).
وفي ظل الإكراه على المذاهب يأتي ما لا يحمد عقباه، من حيث اللجوء للسرية، وإظهار شيء خلاف ما يبطنه المرء، فينتشر بذلك داء أخطر من داء الاختلاف، وهو ازدواج وتناقض شخصية المسلم في مجتمعه.
ومن ألوان التعصب ومظاهره التضييق في حرية العبادة، من حيث عدم السماح ببناء أماكن العبادة، أو إعطاء الحرية في أداء العبادة كل حسب مذهبه، كالتضييق على السنة في بلد شيعي من بناء مساجد للسنة وخطبة الجمعة، أو التضييق على الشيعة في بناء الحسينيات، وأماكن تعبدهم.
وإذا بلغت رحمة الإسلام وعدله وتسامحه بغير المسلم أن وجدت الكنائس جنبا إلى جنب مع المساجد، كما في دولة كمصر وغيرها، ندر أن تجد كنيسة إلا بجوارها مسجد، تتناطح مآذن المساجد مع قباب الكنائس، يشقان عنان السماء معا، وهذا ما جعل فقيهين كبيرين ـ هما: الإمام الليث بن سعد الذي يعد من أئمة المذاهب ولا يقل علما عن مالك وأبي حنيفة، وعاصر مالكا، وكان بينهما مراسلات، والآخر: عبد الله بن لهيعة ـ يصدران رأيا في بناء الكنائس من أنضج الآراء، كان ردا على استفتاء السلطان لهما، فقالا: إن بناء كنائس النصارى، هو داخل في عمارة دار الإسلام[1] .
ومن مظاهر التعصب الممقوت مؤاخذة الآخر بلوازم كلامه، وربما لا يقصد هذا اللازم، ولا ينويه، ولا يفيده منطوق كلامه، ولا فحوى مذهبه، يقول أستاذنا الدكتور محمد سليم العوا: "التعرض لأقوال أصحاب الفرق والمذاهب والحوار معهم فيها يجب أن يقوم على ما يقولونه فحسب دون ما يلْزَم مما قالوه في نظر السامع أو القارئ. أي إن الذي يُحتج به على صاحب الرأي ـ أو العقيدة أو المذهب ـ هو لفظه الذي يفرغ فيه فكرته ويقدمها إلى الناس في قالبه دون ما يترتب ـ أو قد يترتب ـ على هذا اللفظ وتلك الصياغة من نتائج يستنتجها ذكي أو ألمعي أو صاحب بصيرة أو من دون هؤلاء من الناس. لأن القاعدة المسلَّمة عند العلماء تقول: (لازم المذهب ليس بمذهب)؛ أي إن الذي يلزم الناس هو ما يقولونه بنصه وبمعناه الظاهر الذي لا يختلف عليه أهل العلم باللغة التي قيل بها، أما ما يفهمه الناس ويستنبطونه ويستنتجونه ويئولون الكلام إليه، فهو لا يلزم القائل في قليل ولا كثير"[2] .
وهو دلالة من دلالات التعصب الواضح، وآفة انتشرت في عصرنا الحديث، ترى الواحد منهم لا يرى إلا مذهبه، ولا يعترف إلا بفقهه، ولا يأخذ إلا من شيخه، ولا يعرف إلا ما يؤمن به، وما سواه فهو ينكره، غافلا عن طبيعة الدين الذي سمح بهذا الاختلاف، والذي قبل به النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث بني قريظة، ووسع برحمته وسعة أفقه الجميع، من صلى، ومن أخر الصلاة إلى الوصول لبني قريظة، ولم يعنف على أحدهما، ولم يصف من عمل بظاهر النص بالظاهرية، أو بعدم التعمق والتوغل في فهم النص، ولم يصف من عمل بفحوى النص بأنه أعمل عقله في فهم النص، ولم يكن ملتزما بالهدي النبوي الظاهر، لا مانع من تمسكك بما ذهبت إليه، ولكن أن تنكر على الناس ما ذهبوا إليه من فقه له دليله وله وجاهته، هذا ما يأباه الشرع، وما يرفضه علماء الأمة الأثبات، فمن المعلوم لدينا في فقه الإنكار: أنه لا إنكار في المسائل الاجتهادية[3] .
وهذه آفة خطرة تحرم كثيرا من الناس من الاستفادة بفكر الأئمة ومدارسهم، فترى البعض حريصا كل الحرص على التفتيش عن مذهب الكاتب قبل أن يقرأ له، وإن اتفق مع كل ما ذهب إليه من رأي علمي، لكنه جعل معرفته بمذهب الكاتب حائلا بينه والاستفادة مما جاد به فكره.
فمثلا: كلنا يحترم ويقدر ويحب عددا من الرموز، دون أن ندري إن كانوا سنة أو شيعة، فمن منا لا يقدر رئيس باكستان المسلمة ومؤسسها محمد علي جناح، ولم يسأل الناس عن مذهبه، وربما لو أشيع بين الناس أنه شيعي المذهب لتغيرت نظرة البعض ممن يحرصون على التصنيف، ولانقلب خيره إلى شر، وفضائله إلى رذائل، ولقام هذا الفريق بإعادة تفسير كل مواقفه تفسيرا آخر يتوافق مع تصنيفه بهذا التصنيف. ومن منا لم يحفظ من شعر أبي فراس ويستشهد به، ويطرب له، دون البحث عن مذهبه، فلربما حظر هذا الصنف ومنع حفظ شعره والاستشهاد به، لو عرف أنه شيعي المذهب!!
وهذا الحرص على التصنيف ليس من شيم السلف، فقد كانوا يتعاملون في مثل هذه القضايا على أساس ما يستفاد به من فكر الإنسان، رافعين شعار: الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.
ولم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، الذي نقل كل خير يستفاد به بغض النظر عن ديانة هذا الخير أو معتقده، أو جنسه وأصله، كما في حفر الخندق وغيره.
بل وضع لنا معيارا مهما في مثل هذه الأمور، وهو أن نقبل الحكمة من أي فم خرجت، مسلما كان أو غير مسلم، ولا نحرص على تصنيف الناس، فالمهم هو ما خرج منهم من خير، وهل يتصادم مع ثوابت الشرع أم لا؟ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحكم على المبادئ والمفاهيم والثقافات من حيث أهدافها ونفعها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم عن شعر أمية بن أبي الصلت الشاعر الذي مات كافرا: "آمن شعره وكفر قلبه"[4] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. وكاد أمية بن أبي الصلت أن يُسلم"[5] .
قال الإمام المناوي: (وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم، أي: لكنه لم يوفق بالإسلام مع قرب مشربه)[6] .
وعن الشريد بن سويد الثقفي رضي الله عنه قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: "هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟" قلت: نعم، قال: هيه. فأنشدته بيتا، فقال: هيه، ثم أنشدته بيتا فقال: هيه، حتى أنشدته مائة بيت. قال: إن كاد ليسلم"[7] .
قال الإمام النووي: (مقصود الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم استحسن شعر أمية واستزاد من إنشاده؛ لما فيه من الإقرار بالوحدانية والبعث، ففيه جواز إنشاد الشعر الذي لا فحش فيه وسماعه، سواء شعر الجاهلية وغيرهم)[8] .
فالنبي صلى الله عليه وسلم حكم على شعره بالإسلام، وإن لم يؤمن قلبه، وكان يستنشد صحابته ويستزيدهم من شعره، برغم كفر الرجل.
كما حكم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامية مبدأ وهدف (حلف الفضول) الذي عقد في بيت عبد الله بن جدعان، قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، وهو حلف لنصرة المظلوم، فقال عنه صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حُمْر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت"[9] .
بل ذهب صلى الله عليه وسلم مذهبا لم يسبقه إليه أحد من قبل في تلقي النصيحة، أو ما ينفع الناس، بغض النظر عن مصدر قائله، وهو الاستفادة حتى ممن نظن فيهم الشر كله، ولا يخرج منهم إلا الشر، متمثلا ذلك في قمة الشر ورئيسه (إبليس)، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج، وعلي عيال، ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته فخيلت سبيله، قال: "أما إنه قد كذبك، وسيعود". فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه سيعود". فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فإني محتاج، وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته فخليت سبيله، قال: "أما إنه كذبك، وسيعود". فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود ثم تعود. قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك: فاقرأ آية الكرسي ﴿الله لا إله إلا هو الحي القيوم﴾ حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فعل أسيرك البارحة؟" قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: "ماهي؟" قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم ﴿الله لا إله إلا هو الحي القيوم﴾. وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟". قال: لا، قال: "ذاك شيطان" [10] . فهنا نبه النبي صلى الله عليه وسلم على صدق إبليس في نصحه، وإن كان الأصل فيه الكذب، ولم يمنع أبا هريرة من الاستفادة من نصح إبليس أنه عرف من صاحب النصيحة، بل استفاد وقبل النصيحة حرصا منه على الخير، من أي فم خرج.
فهو يرى نفسه الفرقة الناجية، وأنه التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: "كلها في النار إلا واحدة". على ما في الحديث من خلاف في صحة سنده. وعلى الرغم من أن هذا الحديث يبين أن كل المذاهب على خير، ما عدا من خرج على قواعد الإسلام وفرائضه، وما هو معلوم منه بالضرورة، فهذه الخيرية ترتبط بالقرون الثلاثة الأولى، وهل سيعدم كل صاحب قول أو رأي فقهي معتبر أن يجد له سلفا من سلف الأمة قال برأيه، سواء صح رأيه أم لم يصح؟
فهو يجزم بصواب ما يذهب إليه من رأي، ولا يترك لنفسه فرصة المراجعة، والتراجع عن رأيه، فقد يكون الرأي الذي تبناه مبنيا على تصرفات أو عرف، أو معلومات تتبدل، أو تكون فيما بعد قديمة غير صحيحة.
وليس التعصب في الجزم بصواب ما يذهب إليه الإنسان، بل التعصب في الحكم بخطأ كل من خالفه، وأن ما ذهب إليه غير قابل للتغير والتبديل.
ومن مظاهر التعصب التي تمنع من التقريب: التعميم في الحكم، فكل مخالف له حكم واحد، ويحكم على تصرف فرد من فئة بأنه توجه الفئة كلها، وأن الشيعة أو السنة كلهم سواء، والمذاهب كلها لها حكم واحد!
وهو توجه يخالف القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ويخالف ما ذهب إليه أئمة الإسلام الأثبات، فالقرآن الكريم لا يعمم في أحكامه، ولا يحكم على فريق من الناس بحكم واحد، بل يحكم على الناس بما يناسب اختلافاتهم في الرأي والتوجه والخلق والفكر، فليس هناك أشد عداء للإسلام من اليهود، ومع ذلك لم يحكم عليهم القرآن بأنهم كلهم أهل سوء وشر، بل بين أنهم ليسوا سواسية في الحكم، يقول تعالى: ﴿لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ (آل عمران: 113)، وقال تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً﴾ (آل عمران: 75)، وقد لاحظت: أن معظم (ومِن) في القرآن الكريم هي من باب الإنصاف في الحكم، فهي لا تحكم على أهل ديانة أو طائفة بحكم واحد، بل غالبا ما نجد هذا التفريق في القرآن في آيات لا حصر لها.
والتعميم في الحكم منهج يخالف السنة النبوية المطهرة، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يحكم على فصيل من الناس بالغالب عليه، بل ينصف الناس في حكمه ويصنفهم، فرغم عداء أهل مكة له ـ قبل فتحها ـ وحربهم له، فإنه في صلح الحديبية لم يصدر حكما واحدا في رؤيته للناس، فقد قال عن الأحابيش: إن الأحابيش قوم فيهم رقة، فقدموا الهدي، وقال عن آخر: ليس بذاك، أي لا يميل إلى السلم، وقال عن سهيل بن عمرو: سهل الله عليكم به. وهذا يدل على عمق رؤيته، ونفاذ بصيرته صلى الله عليه وسلم في الحكم على الناس، وعدم التعميم والتغليب، أو كما يحلو لبعض الإسلاميين من الحكم بقوله: الكفر كله ملة واحدة، وبناء على ذلك يتعامل مع الجميع بمبدأ واحد، وهو أمر غير صحيح، وليس صوابا.
ومن مظاهر التعصب التي توسع هوة التفرق، وتباعد بين الأمة المسلمة، وهو خطأ منهجي خطير، أن يجعل كلا الفريقين أو أحدهما المواقف التي تصدر أو الأقوال التي تبث في الكتب، مصدر تفكير لا موضع تفكير، وفرق كبير بين المنهجين، فالأول خطأ محض؛ لأنه جعل من المتغير ثابتا، فالمتغير هو الموقف والقول، الذي ربما نتج عن استفزاز من طرف لآخر، أو نتج عن سوء فهم عالم لنص شرعي.
أما الموقف الصواب والوسط في ذلك فهو: أن نجعل كل هذه المواقف التي تصدر من فصيل ضد الآخر، أو من رأي فقهي مبثوث في بطون الكتب، موضع تفكير، قابلا للأخذ والرد، وللنقاش والتصويب والتخطئة، والتبديل.
فهل من الإنصاف أن يتناول باحث سني مذهب الشيعة عن طريق ما تبثه وسائل الإعلام، وبخاصة عند ذكرى الإمام الحسين، من فعل العوام، الذي فيه كثير من المبالغة، كاللطم، وضرب الأجساد بالجنازير، والحديد، وتمزيق الثياب، ثم نحكم على مذهب إسلامي عن طريق أفعال العوام هذه التي لا تمثل المذهب، بل تمثل مخالفات لا يقرها أهل العلم.
وهل من الإنصاف أيضا أن باحثا شيعيا يريد معرفة السنة ومذهبهم فيرصد ما يفعله عوام السنة عند الأضرحة كالسيد البدوي، أو موالد آل البيت في مصر، من تراقص باسم الذكر، مما جعل شيخنا العلامة الشيخ الغزالي يسخر منه ويسميه الرقص الديني! أو من شرب الدخان، والنارجيلة، تاركين أداء الفرائض في هذه الموالد، هل يحكم على السنة من أفعال عوامهم هؤلاء الذين ينكر علماء السنة ما يفعلونه ويحاربونه؟! فليس من الإنصاف اتخاذ هذه المواقف من كلا الطرفين مصدرا للحكم.
وكذلك يدخل في هذا الباب ما يصدر من غلاة المذهبين، من أرباب القلم، أو من كتب تراث الفريقين. فليس من الإنصاف أيضا جعل هذه الكتابات مصدر تفكير نحكم بها على المذاهب، وكيف ذلك وأول ما ندرس في الفكر الإسلامي التفريق بين الإسلام والفكر الإسلامي، فالإسلام هو وحي الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يعتوره الخطأ.
أما الفكر الإسلامي: فهو فهم المسلمين وعلماؤهم لهذا الوحي، وهو بين تشديد وتيسير، وبين إفراط وتفريط، بين فهم مستقيم، وفهم معوج، والفكر الإسلامي كله ليس حجة على الإسلام، بل الإسلام حجة عليه وعلى مجتهديه.
وهذه التفرقة تعلمنا في التعامل مع المذاهب كيف نفرق بين الثابت والمتغير، وكيف أن ما يصدر من أفكار ليس له حكم الثبات الذي لا يقبل التغير والتطور.
وقفنا على مظاهر التعصب، وهي عدة مظاهر كما أسلفنا، وبقي أن نتعرف على أسباب التعصب، كي يعيننا فهم الأسباب على تلمس أسباب العلاج، وللتعصب عدة أسباب فيما أرى، وهي:
وأول سبب يكون سبيلا لجعل المرء متعصبا، هو سبب شخصي، يعود إلى شخصيته وتكوينها، وما جبل عليه من خلال وخصال، فهو مثلا شخص مجبول بفطرته على الضيق بالآخر، وعدم اتساع الصدر لتقبل الآخرين، فهو يضيق بكل رأي خالفه سواء كان من جماعته، أو من جماعة أخرى، من مذهبه أم من مذهب آخر، بل ربما وصل ضيقه بالرأي الآخر بأبنائه وزوجه وأهل بيته وعشيرته الأقربين، وذلك يعود إلى جبلة الشخص التي جبل عليها، ولم يحاول تلمس علاج لهذا الأمر فيه.
لقد كان التعصب هو المانع الذي منع رجلا كأبي جهل من الإسلام، ولم يكن عن عدم قناعته بهذا الدين، أو رفضه له، بل إن حنقه وحسده وتعصبه ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه لذلك، فقد قال معللا سبب كفره بمحمد صلى الله عليه وسلم: "كنا وبني هاشم كفرسي رهان، سقوا فسقينا، وأطعموا فأطعمنا، قالوا: منا نبي، فأنَّى لنا بهذه؟!". فهو ليس كارها لدين محمد، إلا لتعصب جبلي فيه.
وهناك سبب آخر يصنع التعصب، وهو البيئة التي يحيا فيها المرء، فهناك بيئة باعثة على التعصب، وهي البيئات التي يغلب فيها الطابع العرقي والقبلي والمذهبي دون تفهم لقيمة الخلاف وتعدد الآراء، فهي بيئة تصنع من الإنسان - شاء أم أبى - إنسانا يميل إلى التعصب للقبيلة والعائلة والعرق والطائفة والمذهب، بقصد أم بدون قصد، وقديما قالوا: الإنسان ابن بيئته، فلو أن إنسانا ولد في بيئة تصبح وتمسي على الارتفاع بشأن العرق والمذهب على أي شيء آخر، وتغذى منذ صغره في بيئته على هذا الأمر، فسوف ينظر فيما بعد لكل ما عدا معتقده وثقافته على أنه أصغر وأقل وأحقر مما هو عليه، بل ربما نظر إليه نظرة إقصاء بسبب البيئة التي يغلب عليها إقصاء الآخر، أيا كان هذا الآخر، وإن حاول من داخله أن يكون منصفا متسامحا، فسيجد أن ضغط الواقع البيئي يمثل عليه عبئا ليس بالقليل، فإما أن يثبت بمبادئه المنفتحة على الآخر، وإما أن يستجيب - كشأن الكثيرين - لهذا الضغط، ويسير في ركب التعصب، ويجاري العامة ويداهنهم، وبذلك تؤثر فيه البيئة ولا يغير من فساد حالها.
وهناك عامل مهم أيضا يغذي ويساعد على انتشار داء التعصب، وهو سبب يعود إلى الثقافة التي تلقى في نفوس الأفراد في هذا المجتمع، هل هي ثقافة تبعث على التسامح والتغافر، والتفاهم والتحاور، وتقدير الآخر، ومراعاة شعوره، أم هي ثقافة ضيقة تصنع جوا ثقافيا يبعث على الضيق بالآخر، والتعصب للمبادئ صوابا كانت أم خطأ؟ وهناك عدة ثقافات أدى غيابها إلى تهيئة جو تعصبي شديد فمنها:
فلا شك أنه يوجد في مسيرتنا العلمية والتاريخية أخطاء صدرت عن الفريقين، وكان يكفي لإنهاء هذه الأخطاء: اعتذار يليق بالحدث، أيا كان حجمه.
وثقافة الاعتذار ثقافة إسلامية صرفة، ولا يوجد في كتاب سماوي مواقف للاعتذار عن الخطأ كما في القرآن الكريم، ولا يوجد في دين سماوي كالإسلام مثل هذا الكم الهائل من فتح باب الاعتذار، وإن كانت لا تحمل عنوان الاعتذار المباشر، فمثلا: كل آيات التوبة، والدعوة إليها، هي دعوة للاعتذار لله عز وجل عما اقترف المسلم في حق ربه سبحانه وتعالى. والحدود في الإسلام هي اعتذار من المسلم الذي اقترف حدا، فهو اعتذار لله، واعتذار للمجتمع. بل في الصلاة يوجد سجود السهو وهو اعتذار لله عز وجل عن سهوه في صلاته، وعدم خشوعه لله، وقدم القرآن الكريم نماذج كثيرة لاعتذارات الأنبياء، كاعتذار نبي الله يونس، ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنبياء: 87)، واعتذار موسى عليه السلام للعبد الصالح ﴿فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً* قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً﴾ (الكهف: 71 - 73).
ومن الأسباب الثقافية التي أدت إلى انتشار وباء التعصب: أنه غاب عن ساحتنا العلمية والدعوية ثقافة الحوار البناء، الحوار العلمي الهادئ المتزن. والعجيب أن القرآن الكريم كتاب حوار، والسنة النبوية مملوءة بالحوار مع أشد المخالفين للإسلام، وأكثرهم عداء وحدة ضده، وهي حوارات أكثر من أن تحصر.
فلابد من فتح باب الحوار مع كل الجهات العلمية، سواء مع المؤمنين أو الكافرين، مع الموافقين أو المخالفين، وأسوتنا في ذلك القرآن الكريم الذي ذكر حوار الله مع إبليس، وحوار أنبياء الله مع أقوامهم الكافرين، فبغياب هذه الثقافة، ثقافة الحوار، ينتشر التعصب، وتزداد وتيرة الغلو.
وحتى يكون حوارنا صحيًّا وبعيدًا عن التعصب يجب علينا ألا نبغي بحوارنا الجدل والسفسطة وتعميق الجراح الفكرية، أو نكء جراح الماضي، إنما لا بد أن تكون بغيتنا من ذلك الوصول إلى الحق، وألا نضع نتائج قبل الحوار، بل ندع للحوار حرية كاملة، وألا نضع له سقفا، بل يعبر كل منا عما بداخله، ويفضي بشجونه وآلامه ومؤاخذاته على الطرف الآخر، فإذا كنا متفقين في كذا وكذا، فلا شك أننا نختلف في قضايا يزول اللبس فيها، وينتهي الغبش عنها بالحوار، فقد نكون فهمنا شيئا خطأ، أو نقلناه عن مرجع غير معتمد، أو مصدر غير موثوق فيه، أو من شخص تعجل في الحكم، أو في الفهم، فنكتشف بعدها بالحوار أننا بنينا أسوارا من الوهم وحواجز من التعصب، كان سببها عدم الحوار وتبادل الآراء، وقد قال الإمام علي رضي الله عنه: من حاور الناس شاركهم في عقولهم. وكما يقول أهل الحكمة: الإنسان عدو ما يجهل، والجهل بالآخر يزول بالحوار لا محالة.
ومن أهم الأسباب التي جعلت التعصب ينتشر وينمو في بيئتنا الثقافية والدينية والعلمية غياب ثقافة النقد، سواء النقد الذاتي أم قبول النقد الصادر من الآخر، وذلك مخافة أن نواجه أنفسنا بأخطائنا، ونقف أمام مرآة النفس، لنرى صورة واضحة لأفعالنا وتصرفاتنا، ومواقفنا.
وضرب القرآن الكريم نماذج عديدة للمسلمين تربيهم على ثقافة النقد، وبخاصة نقد الذات، ومن هذه النماذج، نموذج غزوة أحد، الذي يعلم المسلمين الوقوف قبل العمل، وأثناء العمل، وبعد العمل، لنتأمل: هل نسير على أهدافه التي ترضي الله سبحانه وتعالى أم لا؟ ثم بعد انتهاء العمل، هل أنجزناه كما خططنا له؟ وهل نجحنا في تحقيق الهدف أم أخفقنا؟ فقد وقف الصحابة يتساءلون فيما بينهم، بعد هذا المصاب، وهذه الهزيمة ليقولوا: ما السبب في هزيمتنا؟ يقول تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران: 165).
ونموذج آخر فصل الله فيه أهمية الوقفة مع النفس ونقد الذات، إنه نموذج أصحاب الجنة يقول تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا﴾ (القلم: 17) إنهم قاموا بتصرف خاطئ، وأرادوا حرمان المساكين من حقهم الذي كتبه الله لهم، فعوقبوا بإهلاك الثمرة ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ* فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾ (القلم: 19 - 20) إنهم أمام اكتشاف ما حدث وتفسير ما حدث.
إنهم فعلوا في الأول ككل ما يفعله البشر في البحث عن كبش فداء في صورة خارجية.
فأولا تطمين خادع للنفس أنه لم يحصل شيء، كل ما حصل هو أننا ضللنا الطريق وهذا ليس بستاننا ﴿فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ﴾ (القلم: 23 - 26).
ولكن تبين بعد قليل أنها هي هي لم تتغير.. إذن التفسير الآخر الذي يقوم على تنزيه النفس بشكل غير مباشر.. إن الظلم وقع علينا وإننا مظلومون.. بل نحن محرومون..
هنا تدخل الرجل المعتدل العاقل (أوسطهم) ليرشدهم إلى جوهر المشكلة ﴿أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ﴾ (القلم: 28). إن المشكلة عندكم في أنفسكم وليست في الخارج.. راجعوا أنفسكم، واكتشفوا الخطأ الذي حدث.. قوموا بعملية نقد الذات.
ويبدو أن القوم كان فيهم بقية من عقل، ولم يرتكبوا حماقة جديدة بالبقاء على تصرفهم كما كان، فاعترفوا بأنهم كانوا (الظالمين) وليس (المظلومين المحرومين).
فأقبلوا يقومون بعملية اللوم الجماعية للتنظيف الداخلي الجماعي، فكما أن عملية اللوم السابقة كانت فردية، فهي هنا جماعية ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ﴾ (القلم: 30)، وهذا هو الموقف التحليلي الصحيح.
إن موقف الاعتراف هو بداية حل المشكلة ﴿إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ (القلم: 29)، ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ﴾ (القلم: 31). فالمشكلة بدأت من نفوسنا، ولم تبدأ من العالم الخارجي، إنه موقف طاهر حين تبدأ عملية مراجعة النفس ونقدها ولومها ومحاسبتها وتقويمها [11] .
ومن مظاهر التعصب، التي تسكب الزيت على النار، وتزيد من اشتعال ناره: اجترار الماضي بما فيه من أحداث كانت موضع خلاف شديد، ولا قيمة لإعادة الحديث عنها، وهي مسائل تاريخية خلافية، أفضى أصحابها إلى ربهم، وصاروا بين يديه سبحانه وتعالى، يحكم بينهم بالحق، ويفصل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون.
ومن هذه القضايا التاريخية التي لا فائدة منها في الحاضر ما دار من خلاف بين الصحابة أو التابعين أو السلف من أئمة المذاهب حول الإمامة ومن الأحق بها، وقد تناول السيد جمال الدين الأفغاني إحدى هذه القضايا التاريخية الشائكة بروح منصفة نحتاج إليها في حاضرنا، وهي مسألة تفضيل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والانتصار له يوم قتاله معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فقال: "فلو سلمنا أنه كان في ذلك الزمن مفيدًا، أو ينتظر من ورائه نفع لإحقاق حق، أو إبطال باطل، فاليوم نرى أن بقاء هذه النعرة، والتمسك بهذه القضية التي مضى أمرها وانقضى مع أمة قد خلت ليس فيها إلا محض الضرر، وتفكيك عُرى الوحدة الإسلامية".
"لو أجمع أهل السنة اليوم ووافقوا المفضلة من الشيعة (من عرب وعجم) وأقروا وسلموا بأن علي بن أبي طالب كان أولى بتولي الخلافة قبل أبي بكر، فهل ترتقي بذلك العجم؟! أو تتحسن حال الشيعة؟! أو لو وافقت الشيعة أهل السنة على أن أبا بكر تولى الخلافة قبل الإمام علي بحق، فهل ينهض ذلك بالمسلمين السنيين وينشلهم مما وقعوا فيه اليوم من الذل والهوان وعدم حفظ الكيان؟! أما آن للمسلمين أن ينتبهوا من هذه الغفلة، ومن هذا الموت قبل الموت؟!".
"يا قوم، وعزة الحق إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لا يرضى عن العجم، ولا عن عموم الشيعة، إذا هم قاتلوا أهل السنة أو افترقوا عنهم لمجرد تفضيله على أبي بكر، وجميعهم لا يحسنون أمر دنياهم، والناس أبناء ما يحسنون".
"وكذلك أبو بكر فلا يرضيه أن تدافع أهل السنة عنه، وأن تقاتل الشيعة لأجل تلك الأفضلية التي مر زمنها، والتي تخالف روح القرآن الآمر أن يكونوا كالبنيان المرصوص"[12] .
ويقول العلامة محمد مهدي شمس الدين عن أثر اجترار القضايا التاريخية الماضية، وكيف أنها وسعت هوة التعصب بين المذاهب الإسلامية، وبخاصة في مسألة الإمامة، وكيف أن إدخالها في باب العقائد وعلم الكلام كان سببا كبيرا في فرقة الأمة وانتشار وباء التعصب فيها، يقول رحمه الله:
أ - إن اللازم الأعظم لعقيدة الشيعة الإمامية في الإمامة كما عرضها علم الكلام القائم الآن هو (بطلان التاريخ) الذي وقع خارج شرعية الإمامة منذ أبي بكر وإلى آخر سلطان أو خليفة خارج هذه الشرعية.
وإذا كان من شرعية لبعض فصوله فإنما حصلت بإجازة وإمضاء الإمام المعصوم علي بن أبي طالب عليه السلام، على رأي من علماء الشيعة، كثيرون يذهبون إليه.
ولا شك في بطلان التاريخ في غير ما حصلت الإجازة فيه على الرأي المشار إليه، على أساس نظرية الشيعة في الإمامة طيلة عهد الإمامة المعصومة الظاهرة، أعني إلى حين الغيبة الكبرى في نهاية الثلث الأول من القرن الرابع الهجري. وهذا ما لا شك فيه، وكل من يقول خلافه من الشيعة فهو مجامل أو جاهل.
ولكن تعميم هذا اللازم على مطلق الزمان يقتضي استمرار بطلان التاريخ بعد الغيبة الكبرى إلى حين يأذن الله تعالى بظهور الإمام المعصوم الثاني عشر الغائب.
ويقتضي كون الموقع التنظيمي السياسي للسنة أنهم كلهم خارج الشرعية السياسية عند الشيعة.
وهذا يقتضي على المستوى المجتمعي السياسي للأمة ضرب وحدة الأمة وانقسامها في القضية السياسية التنظيمية برمتها، وهذا يقتضي انتهاك المقدس، والضروري المعتقدي الذي هو وحدة الأمة الإسلامية الذي يلتزم به الشيعة عقديا، وليس فقهيا فقط، أصوليا، وليس فرعيا فقط.
ب - واللازم الأعظم في المقابل لعقيدة أهل السنة في الخلافة (الإمامة) كما عرضها علم الكلام الأشعري التقليدي، وعلم الفقه التقليدي في المذاهب، هو صحة وحقانية وإسلامية التاريخ، الذي وقع منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوه بإحسان، وإلى آخر خليفة عباسي شكلي في مصر، أو إلى آخر سلطان أو خليفة عثماني، على رأي شائع أيضا بين الإسلاميين.
وهذا اللازم في مقابل اللازم الشيعي يقتضي خروج الشيعة عن الشرعية السياسية للأمة، وخروجهم عن وحدة الأمة.
وقد تتالت نتائج هذا اللازم عند بعض فقهاء أهل السنة، إلى نتيجة الحكم بكفر الشيعة، وخروجهم عن الإسلام.
وهي نتيجة لا بد من الوصول إليها بحكم التسلسل الطبيعي المنطقي لهذا الأصل، وربما ينتهي التسلسل الطبيعي للأصل الشيعي في الإمامة إلى نفس الفرع والنتيجة، أعني إلى التكفير.
هذا على المستوى العقدي والفقهي، أما على المستوى السياسي التنظيمي، فإنه يقتضي كون الموقع التنظيمي السياسي للشيعة، خارج الشرعية السياسية على الإطلاق عند السنة. وهذا يقتضي انتهاك الأصل المقدس، والمعتقد الأصل، وهو وحدة الأمة الإسلامية.
هذا أيضا لا شك حسب علمَي الكلام والفقه عند أهل السنة.
ولكن تعميم هذا اللازم من التيارين على مطلق الزمان ومطلق المكان ومطلق الظروف يقتضي من وجهة النظر الشيعية استمرار بطلان التاريخ بعد الغيبة الكبرى -كما ذكرنا- على المستوى المجتمعي السياسي، انتهاك المقدس، والمعتقد الأصلي، وضرب وحدة الأمة، ويؤدي -وقد أدى بالفعل- إلى انقسامها في القضية السياسية التنظيمية برمتها.
لقد انتهك المقدس والضروري، وهو وحدة الأمة الإسلامية، من قبل السنة والشيعة معا. ويؤدي توالد النتائج من الأصل الكلامي عند كل واحد من الفريقين إلى هذا المحذور))[13] .
إن اجترار التاريخ وأحداثه وانطلاق المواقف المعاصرة منه كان ولا يزال مظهرا ورافدا للتعصب، يغذيه كلما اجتررنا جراحات الماضي، وأثرنا قضايا أصبحت في ذمة التاريخ، في وقت كانت هناك خلافة للإسلام ممتدة، يعيش في ظلالها الوارفة أمة واحدة، وإذا جاز هذا الترف العلمي في وقته، فاليوم لا مجال له، وقد أرادت القوى التي تبغض الإسلام تنحيته من حياة الناس وأنظمتها وقوانينها.
في الأمة الآن أناس -عن عمد أو عن غير عمد- مولعون بالنبش في قبر الماضي، وإخراج ما فيه من أحداث لا تبعث إلا على العصبية والضغينة وإثارة الأحقاد بين الأمة، وللأسف يحدث ذلك كله باسم الإسلام والانتصار له!!
ويتمثل في مؤامرات الأعداء ومخططاتهم لغرس بذور التعصب التي تؤدي إلى الفرقة والتشرذم بلا شك، وتغذية هذه الروافد ودعمها، بل تضخيمها.
قابل أحد الإخوة الباحث الأمريكي "ريتشارد ميشيل" في دولة الكويت في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي فسأله الأخ: ماذا تعمل في الكويت يا د. ريتشارد؟ قال: أنا هنا أدرس الجماعات الإسلامية والمذاهب، وأدرس الخلافات التي بينها[14] .
وهل سيدرس رجل كريتشارد ميشيل هذه الخلافات للقضاء عليها، أم يا ترى ستستفيد مراكز البحث عند الغرب من هذه المواطن لتزكيتها وتغذيتها وإنبات بذرة التفرق ورعايتها؟!
التعصب ليس داء مستعصيا لا علاج له، فما من داء إلا وأنزل الله له دواء، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم، المهم أن نبحث عن كل وسيلة تؤدي إلى استئصال هذا الداء، ومن هذه الأدوية التي تعين على القضاء على داء التعصب:
وذلك بإشاعة الأقوال التي تنصف الفريقين في المدارس والحوزات والكتب والمؤلفات، فلا شك عندما أجد عند المذهب الشيعي ما ينصف المذهب السني، أو العكس، فإن هذه الروح تسري وتثبت حسن النوايا تجاه كل فريق، يقول الدكتور يوسف القرضاوي: (وأود أن أنصح الفريقين من السنة والشيعة أن يحرصوا على نقل الأقوال التي من شأنها أن تجمع ولا تفرق، وأن تقرب ولا تباعد، وأن تزرع المحبة لا الأحقاد ولا البغضاء، فإنها هي الحالقة، لا تحلق الشعر ولكن تحلق الدين.
من ذلك ما نقله العلامة الهندي الشيخ رحمة الله في كتابه القيم (إظهار الحق) الذي رد به على المنصِّرين فأفحمهم؛ قال رحمه الله:
(وأنقل خمسة أقوال لأهل البيت عليهم السلام، على عدد الخمسة الطاهرين عليهم السلام.
في "نهج البلاغة" الذي هو كتاب معتبر عند الشيعة، قول علي رضي الله عنه هكذا: (لله در فلان فلقد 1: قوم الأَوْد، 2: وداوى العمد، 3: وأقام السنة، 4: وقمع البدعة، 5: ذهب نقي الثوب، 6: قليل العيب، 7: أصاب خيرها، 8: وسبق شرها، 9: أدى إلى الله طاعته، 10: واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدي فيها الضال، ويستيقن المهتدي) انتهى.
والمراد بفلان، على مختار أكثر الشارحين ومنهم البحراني: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعلى مختار بعض الشارحين: عمر الفاروق رضي الله عنه، فذكر علي رضي الله عنه عشرة أوصاف من أوصاف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلا بد من وجودها، ولما ثبتت هذه الأوصاف له بعد مماته بإقرار علي رضي الله عنه فما بقي في صحة خلافته شك.
وفي "كشف الغمة" الذي هو تصنيف علي بن عيسى الأردبيلي الاثنا عشري الذي هو من الفضلاء المعتمدين عند الإمامية: (سئل الإمام جعفر عليه السلام عن حلية السيف: هل تجوز؟ فقال: نعم، قد حلى أبو بكر الصديق سيفه. فقال الراوي: أتقول هكذا؟ فوثب الإمام عن مكانه، فقال: نعم الصديق، نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل له: الصديق، فلا صدّق الله قوله في الدنيا والآخرة).
فثبت بإقرار الإمام الهمام أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه صديق حق، منكره كاذب في الدنيا والآخرة.
ووقع في بعض مكاتيب علي رضي الله عنه - على ما نقل شارحو نهج البلاغة - في حق أبي بكر وعمر رضي الله عنهما هكذا: "لعمري إن مكانهما من الإسلام لعظيم، وإن المصاب بهما لحرج في الإسلام شديد، رحمهما الله، وجزاهما الله بأحسن ما عملا".
ونقل صاحب (الفصول) الذي هو من كبار علماء الإمامية الاثنا عشرية عن الإمام الهمام محمد الباقر رضي الله عنه هكذا: أنه "قال لجماعة خاضوا في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم: ألا تخبروني: أنتم من المهاجرين الذي أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله؟ قالوا: لا. قال: فأنتم من الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم؟ قالوا: لا. قال: أما أنتم فقد برئتم أن تكونوا أحد هذين الفريقين، وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحشر: 10).
فالخائض في الصديق والفاروق وذي النورين رضي الله عنهم، خارج من الفرق الثلاث الذين مدحهم الله بشهادة الإمام الهمام رضي الله عنه.
وفي التفسير المنسوب إلى الإمام الهمام الحسن العسكري رضي الله عنه وعن آبائه الكرام: (إن الله أوحى إلى آدم ليفيض على كل واحد من محبي محمد وآل محمد وأصحاب محمد: ما لو قسمت على كل ما خلق الله في طول الدهر إلى آخره، وكانوا كفارًا، لأداهم إلى عاقبة محمودة، وإيمان بالله، حتى يستحقوا به الجنة، وإن من يبغض آل محمد وأصحابه أو واحدا منهم: يعذبه الله عذابا لو قسم على مثل خلق الله لأهلكهم أجمعين).
فعلم أن المحبة إنما تكون بالنسبة إلى الآل والأصحاب رضي الله عنهم لا بالنسبة إلى أحدهما، وإن بغض واحد من الآل والأصحاب كاف للهلاك، نجانا الله من سوء الاعتقاد في حق الصحابة والآل رضوان الله عليهم أجمعين وأماتنا على حبهم، ونظرا إلى الآيات الكثيرة والأحاديث الصحيحة اتفق أهل الحق على وجوب تعظيم الصحابة رضي الله عنهم)[15] .
وهو فقه -للأسف- يغيب عن ساحاتنا الدعوية، فيجب علينا أن نلتمس العذر لكل من خالفنا في المذهب، بل الإسلام يطالبنا بالتماس الأعذار لمن خالفنا في الدين، فقد لا يعرف بما جرى في ديانته من تحريف، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن أهل الكتاب وتحريفهم لكتابهم، وبيان الموقف ممن قلد ولم يعرف بهذا التحريف: (وعلى هذا فإن كان بعض أهل الكتاب قد حرفوا بعض الكتاب، ومنهم آخرون لم يعلموا ذلك، فهم مجتهدون في اتباع ما جاء به الرسول، لم يجب أن يجعل هؤلاء من المستوجبين للوعيد)[16] .
فما المانع من أن أحسن الظن بالآخر، وألتمس له الأعذار فيما صدر منه من خطأ، وقد قال سلفنا الصالح: التمس لأخيك سبعين عذرًا، فإن لم تجد، فقل: لعل له عذرا لا أعرفه. وليس الأخ هنا هو أخي في العقيدة، أو في المذهب، أو في الدم، بل الأخوة في الإسلام أخوة عامة، وهي أخوة الإنسانية، وقبلها - بلا شك - الأخوة الخاصة، أخوة الدين، وكلنا مسلمون.
كثير من القضايا التي يثور حولها الجدل ينقصها أمر مهم، ربما لو حدث لزال كثير من الخلاف، وهو: تحرير موضع النزاع، وممارسته في قضايا الخلاف الشائكة يريح، ويعمق الحوار، ويقضي على التعصب.
ولنأخذ نموذجا لقضية يثور حولها الجدل في العلاقة بين السنة والشيعة، وهي مسألة (التقية)، والتي يكال بسببها الاتهام للشيعة، ولو أن الدارس المنصف للقضية تناولها بعيدا عن المثيرات والمهيجات والتشويش لانتهى إلى نتيجة أخرى غير ما يعلق في ذهن كثير من المتعصبين ضد الشيعة بسبب هذه القضية، فـ (التقية) أمر موجود عند السنة والشيعة على السواء، ومصدرها قوله تعالى: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ﴾ (آل عمران: 28). وتحرير موضع النزاع هنا يقتضي منا أن نناقش لماذا يلجأ الشيعي للتقية إن لجأ إليها، بدل أن نناقش هل يقوم مذهب الشيعي على التقية أم لا؟
إن ما يلجأ للتقية في أي مذهب شيعي أو سني، لاشك هو جو الاستبداد والديكتاتورية، والحرمان من الحقوق والحرية في العبادة والمعاملة، الذي يلجئ الإنسان إلى العمل تحت الأرض، أو بباطن وظاهر، هو الطرف الآخر الذي يملك القوة والنفوذ، لو أعطي الناس حريتهم في الحياة والتدين، ما وجدوا سبيلا للتخفي الظاهري والباطني، ولاشك أن الإنسان بطبيعته ليس مولعا بحياة السراديب، وتنظيمات ما يسمى بتحت الأرض.
ومن الوسائل المهمة التي تساعد في القضاء على التعصب: أن نركز على القواسم المشتركة بين المذاهب الإسلامية، ونعمق هذه القواسم وننميها، وهناك تجربة مهمة قام بها المجمع العالمي للتقريب في هذا الدور، فقد قام بجمع الأحاديث المشتركة بين السنة والشيعة، ووجدها كثيرة لا حصر لها. وقد كنت أود لو اشترك في هذا العمل الجليل علماء من السنة، حتى يلقى العمل قبولا عند السنة، وحتى ينال ثقتهم، أو على الأقل تشكل لجنة للمراجعة يكون فيها عدد من علماء السنة، لينال العمل بذلك رضا الطرفين.
ومما يساعد على منع التعصب كوقاية، والوقاية خير من العلاج بلا شك، أن يتولى الرد على متعصبي أي فريق من هو من أهلهم، فهو بذلك يثبت للفريق المقابل أن ما صدر من تعصب ليس موضع رضا، ولا محل قبول أو إجماع من أهل المذهب، وهذا الأمر هو ما دعا إليه دعاة التقريب بين المذاهب الإسلامية، وبخاصة السنة والشيعة، في الربع الأول من القرن الماضي (العشرين)، وبخاصة العلامة محمد آل كاشف الغطاء، والعلامة محمد رشيد رضا، فقد وضعوا قاعدتين في هذا الأمر، اشتهرت الأولى منهما، وغابت الثانية ولا ندري عنها شيئا، وقد سميتا فيما بعد: بقاعدتي المنار الذهبيتين، الأولى: (نتعاون على ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه). والثانية: (من اقترف سيئة من التفريق والعداء أو غير ذلك من إحدى الطائفتين، بقول أو كتابة، فالواجب أن يتولى الرد عليه العلماء والكتاب من طائفته)[17] .
وعلينا أن نشيع بين الناس: فقه التثبت، وهو الذي دعا إليه الإسلام، ونماه وسبق به الأديان والأمم السابقة، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات: 6)، وهو ما عرف في ديننا بالإسناد، وكتب فيه مجلدات لا حصر لها، فيما سمي بعلم الجرح والتعديل، وهو علم التثبت من صحة ما يقال.
وفي مثل الحديث عن المذاهب يكون التثبت بعدة أمور:
أولها: أن ينقل من مصادر القوم، لا من مصادر الخصوم.
ثانيا: البحث في مدى صحة ما هو منقول منهم، فقد ينقل الباحث من مصدر مذهب من المذاهب، لكن هذا المصدر ليس معتمدا عندهم، أو يوجد ما هو أصح منه في المذهب، وهو أمر مشهور عندنا في فقه السنة، كما نرى في مذهب الإمام مالك مثلا، فالمشارقة لا ينقلون إلا عن الدسوقي والدردير وغيرهما، على خلاف أهل المغرب العربي الذي يعتبرون في النقل عن مذهب مالك عن سحنون وابن عرفة، وهكذا نجد في كل مذهب المصادر القوية المعتبرة، والمصادر التي هي أقل قوة واعتبارا، وهكذا كل مذهب.
ثالثا: أن يؤخذ كل علم من مظانه التي خصصت له، فلا يؤخذ الفقه من كتب الحديث، ولا الحديث من كتب التفسير، ولا العقائد من كتب الفقه، ولا شيء من ذلك كله من كتب الأدب والتاريخ وما إليها[18] .
فمثلا مما اشتهر بين صفوف علماء السنة: أن المذهب الشيعي يعتمد في الاستدلال على مذهبه بعدة كتب أهمها: (الكافي) للكليني، و(من لا يحضره الفقيه) للصدوق، وكذلك اشتهار إساءتهم للخلفاء الثلاثة: أبي بكر، وعمر، وعثمان. وهو أمر مشتهر، ولكن عند التدقيق نجد أن هذا الكلام كان سائدا في فترة وتغير، أو ليس مذهبا غالبا، يقول العالم السعودي الشيعي البارز الشيخ حسن الصفار:
(كانت المدرسة السائدة عند علماء الشيعة في عصور سابقة: هي المدرسة الإخبارية، والتي يرى أقطابها صحة ما ورد من أحاديث وروايات في الكتب الأربعة "الكافي للكليني ت 329هـ، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق ت 381هـ، التهذيب والاستبصار للشيخ الطوسي ت 460هـ" لكن المدرسة الإخبارية قد انقرضت أو تقلصت إلى حد كبير، وأصبح الاتجاه السائد منذ ثلاثة قرون تقريبا هو المدرسة الأصولية، التي لا ترى قطعية صدور كل ما ورد في الكتب الأربعة، بل تخضع مروياتها للدراسة والنقد.
ومثال آخر يرتبط بما يأخذه السنة والسلفيون على الشيعة من الإساءة للخلفاء الثلاثة، فإذا كان ذلك موجودا في بعض كتب الشيعة وماضيهم وتراثهم، فإنه قد يكون ناتجا عن الظروف التي كانوا يعيشونها آنذاك من القمع والاضطهاد، لكن الواقع الفعلي للشيعة بعيد عن مثل هذه الأمور، فالشيعة الإيرانيون - مثلا - وقد أصبحت السلطة بيد علمائهم منذ ربع قرن، ودولتهم من أقوى دول المنطقة، إلا أن وسائل إعلامهم، وخطب جمعهم التي تبث على الهواء، وأحاديث قياداتهم، لم يحصل فيها شيء من هذا القبيل، حتى في أوج ما عانوه من العدوان العراقي المدعوم من قبل أغلب الأنظمة العربية.
وكذلك الحال بالنسبة للشيعة في لبنان، وهم القوة الأبرز هناك، ومع النصر العظيم الذي حققوه على العدو الصهيوني، إلا أن وسائل إعلامهم كفضائية (المنار) لم يرصد عليها شيء من الإساءة للخلفاء، وأجلاء الصحابة، وأمهات المؤمنين.
إن في ذلك دلالة واضحة على تجاوز واقع الشيعة المعاصر لمؤاخذات كانت تحسب على بعضهم في أزمنة غابرة)[19] .
فينبغي أن نتعرف على المذاهب تعرفا صحيحا، ومن مصادرها لا من مصادر الخصوم، فينبغي على علماء السنة ومثقفيهم أن يعرفوا عن التشيع أكثر مما يعرفون، وأن يتفهموا الأبعاد النفسية والاجتماعية والسياسية التي أحاطت بنشأة التشيع، ووجهت مساره، وحددت كثيرا من معالمه، فليس أمر المسلمين كله أمر مقابلة نصوص بنصوص، ومقارعة حجج عقلية بحجج عقلية أخرى، فتلك كلها أسلحة يستخدمها البشر في تحقيق مقاصدهم، وتسوية حساباتهم، وإدارة صراعهم، ولو فعل علماء السنة ذلك لقطعوا نصف الطريق إلى (تعايش إسلامي شامل)، ولقطعوا الطريق على دعاة الفتنة الطائفية الذين يقبعون كالقناصة على جانبي الطريق ينتظرون الفرصة لإشعال نيرات التعصب والانحياز والانقسام)[20] .
هذه وقفات مع التعصب، مظاهره، وأسبابه، وتلمس أسباب العلاج منه، لعلي أكون وفقت في إثارة الموضوع، وطرحه طرحا يعتبر بداية للتعامل معه، من حيث الوقوف عليه، لتلافي أسبابه في المستقبل، والقضاء على مظاهره، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.