وعند الشيعة مثُلها
عرضت في مقال سابق ("الوطن"، 11/4/1429هـ) كتاب الدكتور حاتم بن عارف العوني الذي أورد فيه بعض الأقوال الإيجابية لبعض علماء السُّنة القدماء تتضمن العدل مع المخالفين وتثني على بعضهم وتعلن انتماءهم للإسلام بغض النظر عن تصنيفهم لهم بأنهم من "المبتدعة".
وقد انبرى بعض علماء الشيعة السعوديين وبعض الكتاب السعوديين الشيعة في الأيام الأخيرة إلى التنقيب عن بعض الأقوال الإيجابية التي صدرت عن كبار علماء المذهب الشيعي، وعلى الأخص الإمام جعفر الصادق، الذي ينتسب له المذهب كله.
وأود هنا نقل بعض تلك الأقوال رغبة في تعزيز ما قلتُه في مقالي المشار إليه من وجوب إطلاع الناس، من مختلف المذاهب، على المواقف الإيجابية للعلماء القدماء مما سيسهم في تخفيف الاحتقان ومكافحة المواقف المتشددة التي تبث الفرقة بين المسلمين.
فقد أعادت صحيفة "الوقت" البحرينية (25/4/2008م) نشر مقال كان الشيخ علي آل محسن، وهو من علماء الشيعة في المملكة، قد كتبه بعنوان "من يكسر الحاجز بين الشيعة وأهل السنة؟".
يؤكد الشيخ علي في المقال أن "... أحاديث الأئمة الأطهار "عليهم السلام" قد حثت شيعتهم ومواليهم على التودد لأهل السنة وعدم قطيعتهم، وأكدت على ضرورة التأدب معهم بآداب أهل البيت "عليهم السلام" مع غيرهم".
ثم يورد بعض النصوص المنسوبة إلى الإمام جعفر الصادق في هذا الشأن، ومنها:
"في صحيحة معاوية بن وهب (لاحظ الاسم! ولهذا دلالة لا تخفى على القارئ)، قال: قلت له: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا؟ قال: تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون كما يصنعون، فو الله إنهم ليعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم، ويؤدّون الأمانة إليهم".
"وفي صحيحة زيد الشحام، قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: اقرأ على من ترى أنه يطيعني ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله عزَّ وجل، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد صلى الله عليه وسلم، أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برًّا أو فاجراً، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدَّى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل "هذا جعفري"، فيسرُّني ذلك، ويدخل عليَّ منه السرور، وقيل: "هذا أدَبُ جعفر"، وإذا كان على غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدَبُ جعفر...".
"وفي صحيحة عبد الله بن سنان قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أوصيكم بتقوى الله عزَّ وجل، ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتذلّوا، إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه "وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً"، ثم قال: عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، واشهدوا لهم وعليهم، وصَلُّوا معهم في مساجدهم...".
"وعن زيد الشحام عن الصادق عليه السلام قال: يا زيد خالقوا الناس بأخلاقهم، صَلُّوا في مساجدهم، وعُودوا مرضاهم، واشهدوا جنايزهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا، فإنكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، رحم الله جعفراً، ما كان أحسن ما يؤدِّب أصحابه، وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، فعل الله بجعفر، ما كان أسوأ ما يؤدِّب أصحابه".
"وعن إسحاق بن عمار قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: يا إسحاق أتصلي معهم في المسجد؟ قلت: نعم. قال: صلِّ معهم، فإن المصلّي معهم في الصف الأول كالشاهر سيفه في سبيل الله".
"وفي خبر آخر، قال: من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول".
ويعلق الشيخ آل محسن، مشيرا إلى بعض العوائق التي تمنع الشيعة من العمل بمضمون هذه النصوص، قائلا "ومع علم الكثير من الشيعة بهذه الأحاديث، ورغبتهم الصادقة في مخالطة أهل السنة من أبناء هذا الوطن خصوصاً، من أجل العمل معاً بما فيه المصلحة العامة للجميع، ومن أجل إزالة حالة الشحن الطائفي والتعبئة المذهبية الحاصلة بين الشيعة وأهل السنة، إلا أن حالة من التوجس تنتاب البعض عندما يفكر في الاقتراب من أهل السنة أو الاندماج معهم".
ويشير إلى أن بعض "... أهم أسباب الاحتقان الطائفي الذي حصل بين المذاهب الإسلامية هو عزلة كل طائفة وتقوقعها على نفسها، وعدم السعي الجاد والحثيث من قبل علماء كل طائفة لفتح قنوات اتصال بينهم وبين أتباع المذاهب الأخرى، مما سبب نشوء صورة مشوهة لكل مذهب عند المذاهب الأخرى، جعلت كل طائفة تشحن أتباعها ضد المنتمين إلى الطوائف الأخرى".
وهو ما يمكن أن يعالج عن طريق "... عقد لقاءات متواصلة واجتماعات دورية بين العلماء الذين حملوا على عواتقهم هموم الأمة وتحملوا آلامها، وتطلعوا إلى تحقيق آمالها، فإنها كفيلة بتوضيح صورة كل مذهب عند علماء المذاهب الأخرى، وتذويب الجليد المتراكم فيما بينهم، وخلق روح من الألفة والمحبة بين كل الطوائف، وبعث آمال الأمة التي انطمرت تحت أوحال الحقد والكراهية... ".
ويعلق الشيخ محمد الصفار، وهو عالم دين شيعي سعودي، على المقال في صحيفة "الوسط" البحرينية (21/4/2008م) بمقال عنوانه "كسر الحاجز مهمة ثمنها باهظ"، قال فيه "لقد كان مهمّا من الشيخ سرده لبعض أحاديث أهل البيت عليهم السلام... كي لا تتصوّر العلاقة بين الشيعة وأهل السنة على أساس مصلحي، أو على قاعدة الضرورة والاضطرار، فتلك الروايات أعطت للعلاقة معهم بعداً شرعياً يستطيع الإنسان أنْ يتقرّب من خلاله إلى ربه".
وبعد أن يعلق على بعض ما جاء في المقال يقول:
"نحتاجك شيخنا في قوّة قلمك دفاعاً عن عقيدتنا، ونحتاج نهجك؛ لنجمع بين قوّة إيماننا بمبادئنا وصدق تعاملنا ونزاهتنا في العلاقة مع كلّ مسلم يشترك معنا ونشاركه الشهادتين، سنكون في حال أفضل لو ساد الحب والوئام بيننا، وستتضاعف قوّتنا كلما التحمنا مع إخواننا في الدين، شكراً لك شيخنا على هذه الإنارة الجميلة في درب يعمد كثيرون لإطفاء مصابيحه؛ ليبقى معتما في نفوس الناس".
ويأتي هذان المقالان ضمن سلسلة طويلة من الجهود المماثلة التي يقوم بها بعض علماء الشيعة السعوديين منذ فترة. ومقصدها جميعا البحث عما يمكن أن يخفف من العداء الذي يدعم استمرارَه عدمُ التواصل والجهل بالجوانب المضيئة التي تتضمنها المصادر الأساسية لكلا المذهبين.
وكنت أشرت في مقالات سابقة إلى جهود الشيخ حسن الصفار، وجهود بعض المثقفين من السعوديين الشيعة الذين يعملون على التواصل مع الأطياف الوطنية الأخرى دائما.
ومن أهم ما تجب الإشارة إليه هنا بعضُ المراجعات الأساسية التي أنجزها بعض العلماء الشيعة السعوديين. ويأتي في مقدمة هؤلاء الشيخ حسين الراضي. ومن ذلك ما ورد في تقرير نشره موقع "راصد" (7/2/2007م). وفيه أن الشيخ الراضي شكك في بحث له مدعم "بالوثائق الخطية": "... في صحة سند ومتن زيارة عاشوراء (التي تتضمن كثيرا من اللعن) الموجودة في كتاب الأدعية المعروف "مفاتيح الجنان" للشيخ عباس القمي وفقا لأبحاث معمقة قام بها".
"وأشار إلى أن مصدر كثير من النصوص التي تثير العداوة بين السنة والشيعة يكمن في "... النسخ الخطية للكتب.. وإن كثيرا من النسخ الخطية والوثائق قد دخل عليها التحريف والتزوير..".
و"قام بالبحث لأكثر من ثلاث سنوات حول المصادر الأولية لهذه الزيارة ففتش مئات المخطوطات وفهارسها في مكتبات مشهد وطهران وقم المقدسة وغيرها وتابع عشرات الأسطوانات المدمجة التي تصور المخطوطات".
"ثم ركز على المصدر المدعى لهذا الفصل وهو "مصباح المتهجد الكبير" فراجع أكثر من مئة نسخة خطية بين قديم وجديد وبعض النسخ كلف الحصول عليها مبالغ طائلة وبعضها استغرق الحصول عليها أكثر من سنتين".
"ويلقي الشيخ... المسؤولية على الرواة الذين كان يجب عليهم أن ينقلوا نفس كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو الأئمة عليهم السلام بدقة وأمانة بدون كذب أو تزوير".
"ويرى الراضي أن المسؤولية تقع بشكل أكبر على المحققين في العصر الحاضر فمسؤولياتهم أكبر وأعظم وما عملية التحقيق والتلفيق بين النسخ وأن يختار من كل نسخة ما يحلو له إلا نوع من التدليس والتزوير".
وتدخل جهود الشيخ الراضي هذه ـ التي تعرض بسببها إلى كثير من التشنيع ـ في النقد الذاتي الذي أشرت في بعض ما كتبتُه إلى أنه الطريق الأمثل لكشف الأسس التي تقبع وراء التنابذ والعداء وتشويه الآخرين.
وكما أشرت من قبل إلى وجوب نشر الأقوال الإيجابية، التي صدرت عن بعض علماء السنة القدماء عن المنتسبين إلى المذاهب الأخرى، في وسائل الإعلام وخطب المساجد والمناهج فإن من الواجب كذلك نشر الأقوال الإيجابية التي صدرت عن علماء الشيعة القدماء بالطريقة نفسها في المجالين السني والشيعي لكي يعرف الناس أن هناك طريقا آخر غير التنابذ واحتكار الإسلام.