قبّة وطنية للتفاهم الطائفي
يعاتبني ثلة من لداتي حيال إيماني العميق بالتقارب والتفاهم الطائفي، ويرون أنني حالمٌ حيال إرث عمره الزمني أكثر من ألف وأربعمائة عام، ومتنافر مع الواقع الذي يشي بغير ما آمل وأحلم في ظل أجواء سوء ظن متبادلة، غلب فيه الصوت المعارض من كلا الطرفين. بيد أن جوابي دائما أن علينا العمل لما نؤمن به، والنتائج نكلها للرب جل وعلا.
ومن يقرأ في مذكرات الشيخ علي الطنطاوي عن حال بلاد الشام أوائل ومنتصف القرن الفارط ليهوله التعصب المذهبي السائد آنذاك، إلى الدرجة التي لا يزوج الحنفي فيها الشافعي، فضلا عما سمعناه من أربع جماعات تقام للصلاة الواحدة، وغير ذلك من الصور الشائهة لذاك التعصب، وكل ذلك ذهب اليوم إلى أرفف التاريخ بلا عودة إن شاء الله، وهو ما نؤمله حيال طائفتي الأمة.
أؤمن تماما بأن نجاح التقارب في وطني المضيء بنور الرسالة، سينعكس إيجابا على كل العالم الإسلامي، وأتصور أن الفشل الذي مني به التقارب في محيط الأمة كان أحد أسبابه غياب صوت علمائنا ودعاتنا الكبار. فنحن نمثل رأس وتاج الأمة، والحراك الذي لدينا سينعكس على كل العالم الإسلامي، وخصوصا في مسألة بها تماس ديني وسياسي.
في رأيي الخاص، ومن خلال معايشة دقيقة لمسألة التقارب الطائفي، أرى أنه ابتداء لأجل إنجاح هذا المشروع، لا بد أن تؤمن جميع الأطراف بأن مصلحة الدين والأمة والوطن في هذا التقارب والتفاهم، وأننا بتماسك نسيجنا الداخلي سنفوت الفرصة على أعدائنا ممن يتمنون اليوم قبل غد أن نتفكك، ونظل على اختلافاتنا الفكرية واحتراباتنا الطائفية، وهم يوقدون أوارها كلما هدأت، ويستغلون الشباب ممن تتملكهم العواطف الجياشة ويغيب عنهم العقل والحكمة والنظر إلى المآلات البعيدة.
ثمة أصوات معتدلة كثيرة من دعاتنا في الجانب السني يدركون أهمية هذا المشروع ولكنهم صامتون بسلبية مستفزة، وأسبابها غير خافية للعارفين بدقائق التيار الديني في المجتمع، وهؤلاء الدعاة موضع ثقة لدى كبار العلماء لدينا، ويستطيعون التأثير عليهم أو على الأقل تحييدهم، وفي يقيني أن هذه الفئة هي التي ينبغي التعويل عليها في دفع عملية التقارب إلى أمداء أبعد، وعلى الشيخ الصفار وفريقه من الفضلاء والعقلاء تكثيف الجهود معهم، وقد أفلح سابقا ووجد صدورا مفتوحة من أمثال الشيخ عوض القرني وعبدالمحسن العبيكان ومسفر القحطاني وبعض الدعاة، وأؤكد أن كثيرين جدا مؤيدون ومقتنعون بضرورة التقارب بما أسلفت، ولكن خوف التصنيف وغلبة الصوت المعارض يحجمهم عن التقدم بخطوة جريئة، وعليه أرى – والله أعلم – بأن دعاة التقارب سيلوبون في ذات الدائرة التي وصلوا إليها دون أن يتقدموا خطوة طالما كان ذلك الوجل والخوف من الصوت المعارض، وعليه والأمر بما ذكرت لا بد من الغطاء الرسمي لدفع عملية التقارب.
جملة الأسباب والحرج التي يحجم بسببها هؤلاء من مباشرة التقارب ستزول إن وجدت قبة وطنية خاصة بالتفاهم الطائفي على منوال قبة الحوار الوطني، تلك التجربة الوطنية الرائدة التي قامت بدور عظيم في تذليل كثير من العوائق النفسية بين كل التيارات الفكرية في مجتمعنا، ومهدت الطريق لترسيخ وشيوع ثقافة الاختلاف.
إن لم يجد دعاة التقارب قبة يحتمون تحتها من حرج العتابات والتصنيفات، ويتكئون إلى ركن رسمي متين، كي يدعموا صوت الاعتدال والوطنية لدى الطرف الآخر الشيعي، إخواننا في الإسلام وشركاؤنا في الوطن، والذين بادروا لهذا التقارب، وهم في واقع الحال بوضع ضعيف وقلة أمام غالبية طائفتهم ممن لا يرون رأيهم، وقد غلب عليهم الخطاب الغالي، فسنكرر صورة مصغرة، لما آل إليه التقارب على محيط الأمة، من الربت على الأكتاف وتبويس الخدود، ومن ثم تبادل الأماني والأحلام، في وقت تسيّد في الساحة الإسلامية أصوات الغلاة، ودونكم ما يحدث في العراق من اقتتال طائفي بغيض، سببه عدم دعم صوت العقلاء التي تبددت في أتون تلك الفتنة.
في هذه القبة، إن كتب الله لها الظهور، ثقوا أن كثيرا من الخلافات الحادة ستتبدد، فالتكفير الذي يشتكي منه الطرف الشيعي سينتهي، لأن أسبابه ستغيب، فتكفير الصحابة رضوان الله عليهم، وشتم الخلفاء وأمهات المؤمنين، وجملة المشاكل الرئيسية التي يشتكي منها الطرف السني سيحرمه هؤلاء النفر من العلماء الشيعة المعتدلين، وكذلك الاحتقانات الطائفية التي يؤاخذ بها الطرف السني، ستخف إلى حد كبير، وسيلزم كل طرف طائفته بما اتفقوا عليه، وستبنى قاعدة تاريخية للتفاهم الطائفي، لدفن معظم هذه التراكمات التاريخية التي لن يسألنا الله عنها، بمثل ما قال سماحة السيد فضل الله " تلك امة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم"، وسيطالب العلماء من كلا الطرفين بالتأسيس لثقافة قائمة على احترام حق الآخر طالما لم ينل من معتقداته، والتطلع سويا للمستقبل، ومواجهة إشكاليات الأمة والوطن والمجتمع، وسنفوت بالتأكيد على المتربصين بنا أن يتدخلوا في شؤوننا، وأن يبتزوا بالورقة الطائفية واللعب على الطرفين.
بالـتأكيد لن أكون مثاليا، كي أتصور أن ينتهي هذا الخلاف من جذوره، بل ستبقى الفئة الغالية في الطائفتين، ولكننا نؤمل ارتفاع صوت المعتدلين والعقلاء، وتسيّد خطابهم العاقل للساحة الإسلامية، وأذكر ببداية مقالي حيال التعصب المذهبي وكيف آل وانتهى.
وأختم بأن ما يجعلني متفائلا هو أن جهود الشيخ حسن الصفار مقدرة لدى ولاة الأمر، وها هو خادم الحرمين الشريفين بعث رسالة تعزية خاصة له، إضافة إلى أن مئات الأمراء والمسئولين قاموا بتعزيته وزيارته، تأكيدا لمكانته، وتقديرا لما يقوم به من جهود وطنية مخلصة.
أيها السادة: أؤمن بيقينية مطلقة بغلبة صوت الاعتدال، وسيأتي يوم يصبح هذا الخلاف والاحتراب الطائفي في أرفف التاريخ إن شاء الله.