أفكار في التسامح: التعايش بدلاً من التقارب
محاولات التقارب بين الأديان والمذاهب المختلفة لم تخل منها أمة من الأمم في التاريخ القديم كما في الحديث. تلك المحاولات لم تكن يوماً من قبيل الترف بقدر ما كانت في حقيقتها استجابة لسببين رئيسيين: أولهما: استحالة الوحدة الدينية ومثلها الوحدة المذهبية داخل الدين الواحد. والتاريخ البشري خير شاهد على هذه الحقيقة التي يشهد لها القرآن الكريم بقول الله تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين). وثانيهما: التبعات السلبية لتلك التعددية التي قد تنشأ من اعتقاد كل طائفة أو فرقة أن عليها "واجب" قسر المخالفين لها على معتقداتها من منطلق اعتقادها "قطعية" الحق فيها وحدها والاعتقاد ب "ضلال" أولئك الذين لم يعتقدوها.
مع تلك الكثرة الكاثرة من مؤتمرات ومحاولات التقارب، فإن التاريخ لا يثبت شيئاً أكثر من فشلها الذريع في كسر جدار العزلة بين الأديان المستقلة من جهة، وبين المذاهب داخل الدين الواحد من جهة أخرى. ولهذا الفشل بالطبع أسبابه الجوهرية التي ربما لم يكن أحد من العارفين ببواطن الأمور من بين تلك الفرق قادراً على كشفها أو الحديث عنها بصراحة، خوفاً من اتهامه بأنه ضد الوحدة التي ترومها تلك المحاولات من التقارب!! والسؤال المركزي هنا هو: ما هي بالضبط تلك الأسباب الجوهرية التي ظلت تلعب دوراً محورياً من تحت الطاولة في إفشال كافة المحاولات التي جرت لإحداث أي تقارب حقيقي بين الأديان والمذاهب المختلفة على مر التاريخ؟
تكمن الأسباب الرئيسية في تقديري وراء فشل محاولات التقارب في "حقيقة" أن أي تقارب حقيقي يأخذ بحسبانه انصهار "عوام" المذهب أو الدين في مشروع التقارب قبل "خواصه" سيعتمد بالدرجة الأولى وقبل أي شيء آخر على التنازل عن (أصول) الديانة أو المذهب، أو بعضها على الأقل. لأن جل تلك الأصول أو ربما كلها تتعارض فيما بينها من ناحية مضامينها. أو هي بالأصح تتضمن - في الغالب - نقيض ما تتضمنه أصول الديانة أو الفرقة التي تريد أن تتقارب معها. وهذا في الحقيقة ما يبعد ب "التقارب" عن أن يكون من قبيل المفكر فيه، ناهيك عن أن يكون شيئاً حقيقاً على أرض الواقع. فالتنازل عن الأصول ربما مثل كفراً بواحاً عند أتباع المذاهب - خاصة عند العامة منهم، وهم متعهدوا إثارة الأزمات في الغالب - مما يعني عندهم "تكفير" التقارب نفسه أو تبديعه على الأقل.
على مستوى الأديان، نجد مثلاً أن هناك محاولات كثيرة بذلت لإيجاد صيغة للتقارب الإسلامي/ المسيحي، ومع ذلك فقد اصطدمت تلك المحاولات بتباين الأصول بين الديانتين فيما يخص النظرة للمسيح عليه السلام. ففي المسيحية يشكل صلب المسيح ثم قتله على أيدي الرومان بوشاية من اليهود، ثم قيامته بعد موته وخروجه من قبره وحديثه لحوارييه ثم صعوده للسماء، وأنه عاش عازباً لم يمسس النساء، أصولاً لا يمكن التنازل عنها من قبل المسيحيين بكافة طوائفهم الحية. أما في الإسلام فإن عدم صلبه كما هو عدم قتله، بالإضافة إلى بشريته الكاملة ورفعه إلى السماء حال نية الرومان الغدر به، تشكل هي الأخرى أصولاً إسلامية قاطعة تجاه النظرة للمسيح عليه السلام لا يمكن للمسلمين التنازل عنها مهما كانت الأسباب، ومهما كانت مثالية الأهداف المرجوة من أي لقاء أو تقارب مع المسيحيين. يقول الله تعالى في الآيتين (157و158) من سورة النساء ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِهَ لَهُمء وَإِنَ الَذِينَ اخءتَلَفُواء فِيهِ لَفِي شَك مِنءهُ مَا لَهُم بِهِ مِنء عِلءمٍ إِلاَ اتِبَاعَ الظَنِ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَل رَفَعَهُ اللهُ إِلَيءهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾. وهكذا كما نرى، فإن الأصول بين الديانتين فيما يخص هذه النقطة المحورية متناقضة تماماً بما لا يسمح بحدوث أي تقارب حقيقي بينهما ما لم تتنازل كل ديانة عن أصولها، أو أن تتبنى ديانة منها أصول الديانة الأخرى. وهذا ما لا يمكن حدوثه أو حتى تخيله.
أما على مستوى المذاهب، فإن بحوراً من الدماء قد سالت على وقع الخلافات العقدية بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأخرى وخصوصاً منها الكنيسة البروتستانتية. فبينما يتحدد الخلاص في الكنيسة البروتستانتية باعتراف الشخص بخطيئته والتوبة عنها والإيمان بشخص المسيح المخلص، نجد أن الكنيسة الكاثوليكية ترى أن هناك وسائط للخلاص كالمعمودية مثلاً. ووسط هذه الخلافات العقدية العميقة، لم تُجدِ أية محاولات للتقارب بينها مما حدا بالأوروبيين إلى حل هذه المسألة المعقدة، لا بالتقارب بين المذاهب المسيحية أو بمحاولة المزج بينها أو بتنازل كل مذهب عن أصوله، بل عن طريق إشاعة التعايش بين تلك العقائد المختلفة. والتعايش مفهوم يقوم - كما يقول سمير الخليل في كتاب (التسامح بين شرق وغرب) - على معنى التحمل أو المعاناة الذي يقوم على "التعايش مع شيء لا يُحَب في الحقيقة" وكما يقول أيضاً نقلاً عن الفيلسوف إس. إليوت في معرض تعريفه للتسامح (Toleration) وفقاً للمفهوم الغربي والذي يعني التعايش "إن المعنى الجوهري هنا يحمل نوعاً من التسوية غير المريحة، يحمل ما هو أقل من وضعية مثالية، بين ما يتحمله المرأ بكل حماس (ذاته غالباً) وبين الآخر الغريب الذي يجبر التسامحُ المرء على القبول به ودائماً على مسافة ما".
إذاً التعايش بهذا المعنى يعني أن يترك أتباع كل فرقة أتباع الفرق أو المذاهب المخالفة لها ليتعاملوا مع أصولهم ومعتقداتهم بالشكل الذي يرونه مريحاً ومؤدياً لخلاصهم، بدون أن يفرض أحد منهم على الآخرين قبول معتقداته أو قسره على ما يعتقده، بغض النظر تماماً عن قناعة كل مذهب بعقائد أو أصول المذهب الآخر. مع قيد ضروري يتمثل في ضرورة مراعاة القانون العام والحفاظ على النظام القائم ووحدة الوطن الذي يضم تلك المذاهب أو العقائد المختلفة. وإذا كنا مقتنعين ب "استحالة" التقارب في ظل استحالة تنازل كل مذهب عن أصوله العقدية، فلا مناص من التعايش، وإلا فالبديل سيكون غرقاً في بحر من الدماء كما أثبتت ذلك التجربة الأوروبية أيام ما كانت دولها ذات مجتمعات دينية.
في المجال الإسلامي - وهو غرضنا من تدبيجنا لهذا المقال - فإننا لو أخذنا مثلاً السنة بفرقتيها الكبيرتين "السلفية والأشعرية" والشيعة بفرقتها الرئيسية "الإمامية"- وهما من أكبر المذاهب الدينية التي استحكمت بينها تبعات الخصومة التاريخية منذ انجلاء غبار صفين - كنموذج بارز للمذاهب التي حاولت جادة أن تتقارب - لوجدنا أن لدى كليهما من "الأصول" التاريخية المتباينة ما ليست فقط كافية لإجهاض أي محاولة حقيقة للتقارب بينهما فحسب، بل وستجعل من سيتولى زمام أي محاولة من هذا النوع في قفص الاتهام من قبل "دوغمائيي" كل مذهب بأنه "قامع للسنة محيي للبدعة" أو أنه "خائن لآل البيت متحالف مع الحشوية" من جانب عوام الشيعة. و"بائع لدينه متخل عن نصرة الصحابة متحالف مع الروافض" من جانب عوام السنة. هذه الصورة للعلاقة بين الفريقين ظلت المعوق الأبرز لأية محاولات يبذلها المعتدلون من الطرفين لإحداث ثقب في جدار العزلة السميك بينهما. والسؤال مرة أخرى هنا سيكون عن الأسباب الحقيقية وراء (هبة) الحراس الأرثوذكسيين من كلتي الطائفتين ضد محاولات التقارب بينهما؟
لا تخرج الأسباب في جملتها عن نفس الأسباب التي منعت مذاهب أخرى داخل الدين الواحد من أن يلتئم شملها، إنها مرة أخرى "الأصول" التاريخية المتباينة حيناً والمتناقضة أحياناً أخرى. فالشيعة الإمامية مثلاً لديهم "أصولٌ" تاريخية لا تمكنهم من أن يتقاربوا مع السنة إلا بالتخلي عنها كلياً أو جزئياً مع استحالة ذلك - على الأقل بالنسبة لعوام المذهب - فهم يعتقدون جازمين بأن الإمامة أصل من أصول الدين وأنه لا يجوز لنبي إغفال مثل هذا الأمر، أو أنها كما قال ابن خلدون في المقدمة "ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة بحيث يتعين القائم بها بتعيينهم، بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام ولا يجوز لنبي إغفاله ولا تفويضه إلى الأمة، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم" وبناءً على هذه النظرية الشيعية في الحكم، فهم يعتبرون أن من أصولهم القاطعة أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بوصية منه وفق نصوص يرون أنها مثبتة لذلك، كما يعتقدون بتسلسل الإمامة في ذريته من آل البيت عليهم السلام إلى الإمام الثاني عشر، وهو الإمام محمد بن الحسن العسكري الذي دخل - وفقاً للرواية الإمامية - في سرداب بداره بالحلة وتغيب حين اعتقل مع أمه هناك. وهو عندهم المهدي الذي سيخرج في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وزوراً. مع اعتقادهم بعصمة هؤلاء الأئمة الاثني عشر. بالإضافة إلى اختصاصهم - أعني الإمامية - بمراجع تشريعية أساسية مثل كتاب (الكافي) للكليني وكتاب) من لا يحضره الفقيه) للشيخ الصدوق وكتاب (الاستبصار في مناظرات النبي والأئمة الأطهار) لمحسن عقيل وكتاب (التهذيب) للطوسي.
أما عند السنة فالأمر بخلاف ذلك تماماً. إذ يرون أن الإمامة يمكن عقدها باجتهاد الأمة بتفويضها من تراه ليكون خليفة على المسلمين، وحجتهم في ذلك ما قام به الصحابة في السقيفة حين اختاروا أبا بكر رضي الله عنه للخلافة، رغم احتجاج بعضهم - أعني السنة - بوجود وصية لأبي بكر بالخلافة من قبل النبي صلى الله عليه وسلم - إلا أن الصحيح عندهم أنها تتم بالاجتهاد والتفويض من قبل الأمة. بدليل أن أبا بكر رضي الله عنه لم يحتج بتلك الوصية أثناء مناقشات المهاجرين والأنصار في السقيفة حول من سيتولى الخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وبالتالي فلا تسلسل في الإمامة لديهم، ولا عصمة للخلفاء أو الأئمة. كما يختلفون عن الإمامية في تحديد شخصية المهدي المنتظر الذي لم يولد بعد - وفقاً للرواية السنية -. وهم بالطبع ينكرون تماماً أن يكون هناك وصية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم بالخلافة. بالإضافة إلى أن لهم مراجعهم التشريعية الخاصة كصحيحي البخاري ومسلم وبقية السنن والمسانيد المعروفة.
أمام هذه الاختلافات المتباينة بين المذهبين في التنظير للخلافة والنظر إلى الأئمة وغيرها مما لا يتسع هذا المقال لذكره، هل يمكن القول بوجود إمكانية للتقارب بينهما اعتماداً على إمكانية التنازل عن شيء من تلك الأصول؟ الواقع التاريخي كما المعاصر يثبت استحالة مثل هذا الأمر. ولا يبقى سبيل لإدامة العلاقة السلمية بينهما إلا بإحلال التعايش بالمعنى الأوروبي الذي تحدثنا عنه آنفا برواية سمير الخليل. وهذا الأمر مهم للغاية، وينبغى أن يفعَّل وتعقد لأجله الندوات والمحاضرات والتهيئات تلو التهيئات. فوطننا الكبير (المملكة العربية السعودية) يضم أشتاتاً من المذاهب الإسلامية التي تختلف فيما بينهما في الأصول التاريخية، مع اتفاقها في الأصول الوحيية القطعية. ولا خلاص لنا بالتالي من جحيم الطائفية الذي يتربص بنا الدوائر من حولنا إلا بإحلال هذا المفهوم محل محاولات التقارب غير المجدية، وليكف عقلاء كل مذهب السفهاء لديهم عن إثارة النعرات المذهبية أو الاقتيات على الاختلافات العقدية بينهما بالتبشير بهذا المفهوم لتأسيس العلاقة السلمية المستديمة بينهما. مع التمسك بالوحدة الوطنية كمرجعية أساسية. ولقد سعدت كثيراً بسماع الشيخ حسن الصفار أثناء لقائه بقناة "الجزيرة مباشر" حين تحدث عن إمكانية القبول بمبدأ التعايش بين السنة والشيعة، ونسب هذا القول أيضاً للشيخ سلمان العودة. وهو مؤشر مهم جداً، يدل على اقتناع جزء مهم من أقطاب المذهبين باستحالة فرض كل مذهب رؤيته على المذهب الآخر، واقتراح التعايش ليكون أساساً للعلاقة بينهما كما هو مع المذاهب الأخرى. وهذا الأمر - أعني التعايش - له أساس من القرآن الكريم الذي أشار في الآية (108) من سورة الأنعام إلى ضرورة التعايش بين المسلمين ومخالفيهم طبقاً لاقتناع كل طائفة بمعتقداتها بقول الله تعالى ﴿ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم، كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون﴾.. وإذا كانت هذه الآية تشكل تقنيناً لعلاقة المسلمين مع غيرهم من أتباع الديانات الأخرى انطلاقاً من حرية العقيدة، فإنها - وفقاً لما تبتغيه من علاقة سليمة، خاصة في معرض تقريرها عن تزيين الله تعالى معتقدات كل فرقة في وجدان أصحابها - أجدر بأن تكون عنواناً للعلاقة بين أتباع المذاهب الإسلامية المختلفة.