التنوع وإشكالية السلام الاجتماعي
يحلم الطيبون بمجتمع واحد متجانس، بل ومتماثل غاية ما يستطيع الحلم أن يجود به. وهذا ليس متعذراً فحسب، بل هو إلى المستحيل أقرب.
كما انه فيما لو وقع هذا المستحيل - لن يصبح مجتمعاً سوياً؛ لأن فقدان الاختلاف والتنوع، يؤدي إلى نوع من الجمود الحضاري، الذي يؤدي - بدوره - إلى الانقراض الجزئي أو الكلي. ومن هنا فهذا الحلم الذي يبدو في ظاهره واعداً بغد أفضل، هو الحلم الكارثة، الذي طالما أدى إلى ظهور الفاشيات وحركات التطهير العرقي والديني والمذهبي، داخل المجتمع الواحد.
يتخيل البسطاء ان المجمع الذي يصل به التجانس حد التماثل، هو المجتمع الذي يعيش السلام الاجتماعي حقيقة. ومع ان في هذا جزءاً من الحقيقة، إلا أن هذا السلام الظاهر، هو سلام الأموات، لا سلام الأحياء. الأحياء - بطبيعة الحياة - فاعلون متنوعون ومتنافسون. أما الأموات فيكفي انهم أموات، ولا أحد يريد لأمته حالة الموات الحضاري.
المجتمعات التي تكون فيها شبهة هذا التجانس، لا تعيش أفضل حالاتها الممكنة. كما أن إمكاناتها الراهنة، والمستقبلية، ليست الحلم الذي يفترض به أن يراود المهمومين بالنهضة في عالمي: العرب والمسلمين نحن - كعرب أو كمسلمين - نعيش فوق بحر من التنوع العرقي والديني، والمذهبي، والطائفي، وربما المناطقي أيضاً. وهذا التنوع مصدر ثراء، وقاعدة نهضة وليس - كما يزعم "الامتثاليون" - مصدر التأزم الحضاري الذي نعيشه، ولا السبب الحقيقي لتفجر بؤر الصراع في حدود عالمنا الإسلامي المنكوب.
هذا التنوع، يمكن أن يكون مادة أولية لتفجير بؤر الصراع، فيما لو تم التعامل معه بغباء الأصوليات المتطرفة. كما انه يمكن أن يكون مادة أولية لصناعة المجتمع المدني المؤمن بالسلام الاجتماعي. يمكن لنا أن نجعل الجميع المتنوع عناصر حوارية، على المستويين: الفكري والمادي. وبهذا، يكون الذي تستخدمه الأصوليات المتطرفة لصنع واقع سيىء، هو ذاته الذي يصنع واقع التعايش المدني المبتهج بتنوعه، إلى درجة ألا يعد أي اختلاف مروقاً عن الدين وخروجاً على المجتمع.
وإذا كان هذا الاحتفاء بالتنوع ضرورياً في العالم الإسلامي اليوم، فإنه في المملكة والخليج العربي - بما فيه العراق - تزداد ضرورته، بحجم ما تستقطبه المنطقة من صراع على النفوذ، إلى درجة جعلت منها الدول الكبرى جزءاً لا يتجزأ من أمنها القومي. وبهذا فالتنوع في هذه المنطقة، يمكن أن يكون أداة الاستقرار، فيما لو تم توظيف التنوع لفتح آفاق التسامح الذي يصنع المجتمع المدني بالضرورة، كما يمكن أن يكون المشرعن للاحتراب، كما هو الواقع في العراق.
التنوع الموجود في العراق، هو التنوع الموجود في أكثر دول المنطقة، وإن اختلفت المسميات، أو تبدلت مواقع بعض الأطراف. وهذا يعني أن الضرب على أوتار الطائفية والمذهبية ومحاولة رفع درجة التمايز من قبل السلفيات في كل مذهب، من شأنه أن يقود إلى وضعية كارثية، ربما لا تظهر في صورة الاحتراب المسلح، لكنها في تشنجاتها قد تنتج أضراراً دينية عميقة وتصدعات اجتماعية، يخسر فيها الجميع، ولا يربح فيها أحد؛ حتى من يتصور نفسه رابحاً، جراء هذا التمايز أو التمييز.
الحركات الأصولي في كل فريق، يسرها أن ترفع من حدة التوتر، لأنها تعتقد - عن جهل - انها سوف تربح من مخلفات الاحتراب الطائفي، أكثر مما يمكن لها أن تربحه في ظل السلام الاجتماعي. والكتب والمطويات والأشرطة والتصريحات المنبرية الهوجاء، تتصاعد في لهجتها العدوانية تجاه أبناء المجتمع الواحد. نسمع ونقرأ ونشاهد، كل هذا الاصطفاف الطائفي، ويعلم الجميع اسماء أصحاب هذه الدعوات الطائفية، ولكن حجم مواجهتها - المواجهة الفكرية والعملية - فيما بيننا لا تزال متواضعة، وتحتاج إلى المزيد.
المكفراتية على أساس الاختلاف المذهبي والطائفي، معروفون بأسمائهم وأسماء نتاجهم التكفيري، ومنهم الذين لا يعلنون عن أنفسهم، وإنما يعرفون من لحن القول لبعضهم، لا تزال مؤلفاتهم الطائفية التي قدموها كرسائل "علمية!" تطبع لدينا وتباع في أسواقنا. وهؤلاء انما قامت شهرتهم وجماهيريتهم المتواضعة على مثل هذه المؤلفات الطائفية التكفيرية، وهم يحاضرون - بل ويدرسون - بمادة هذه المؤلفات، أو ما يسمونها: مؤلفات!. وليست المشكلة أن يوجد مثل هؤلاء، ولا أن يستمروا في الوجود، فالخوارج "حالة" باقية، قد تضمر وقد تتراجع عن هذا أو ذاك، لكنها تظل موجودة على نحو ما، وانما المشكلة ان هناك صمتاً اجتماعياً شبه عام، يدل على عدم الوعي بخطورة هذا الخطاب.
منذ سنوات بدأت محاولات محدودة، ولكنها جادة لقطع الطريق على الخطاب الطائفي التكفيري. وقد جرى الحوار وتبادل الزيارات وسط غضب ملتهب من قبل المكفراتية، الذين رأوا في هذه الخطوات بداية اعتراف متبادل، يتغيا السلام الاجتماعي، ويخلص للاسلام الماقبل طائفي.وهؤلاء الذين تميزوا من الغيظ جراء هذا التقارب، هم المتاجرون بالإسلام المابعد طائفي. فالمسألة عند الكثيرين منهم مسألة مكانة تحققت على ضوء التمايز الطائفي، وبضمور الطائفية تزول المكانة وتضمحل الهالات التي كانت تحف بهم زمن الصراع.
المقتاتون على دماء الأبرياء ودموعهم، هم الذين يعارضون دعوات الإخاء التي تحاول كسر الحواجز التي بنيت منذ قرون، وتم تفعيلها بوجهها الحاد الكالح منذ عقود. لا يزال إلى الآن هناك من ينزعج ان يجاوره في البيت أو العمل من يختلف طائفياً معه، ومن لا يؤمن بحق الجميع في المساواة في الفرص الاجتماعية والوظيفية. ليس هذا على مستوى العوام، وانما للأسف يتحدث بهذا أو يدعو إليه أناس مكنوا من التحدث عبر منابر تعليمية وإعلامية، وظفوها لتعزيز العداء والمفاضلة داخل أبناء الوطن الواحد.
ما قبل المرحلة الأصولية الراهنة، كان هناك نوع من التسامح الاجتماعي الذي كان يظهر في الوعي بالفروق الطائفية، مع عدم اتخاذها مبرراً للعداء. ظهور الاصوليات التي تسعى لتوظيف الجماهير سياسياً أدى إلى جعل الأصطفاف يكون على أساس مذهبي أو طائفي. وربما هذا ما جعل الكثير ينادي بالرجوع إلى ما قبل الأصوليات، باعتبارها فترة ما قبل التسييس الطائفي.
المبادرات للتقارب أو للتعايش المدني، لا زالت محدودة، رغم كثرتها إذا ما قيست بحجم المأساة، ومستوى العداء الذي يكنه كل طرف للطرف الآخر. وهناك تقاعس من قبل كثيرين عن الخوض في هذا الموضوع من الزاوية الإيجابية، فضلاً عن المشاركة الجادة في "تعريف" كل طرف بالآخر؛ لأن مستوى الجهل من كل فريق بالآخر، لا يزال من أبرز العوامل التي تقود إلى هذا التنافر الطائفي.
قبل سنة تقريباً تلقيت الدعوة الكريمة من الأستاذ محمد محفوظ، للمشاركة في كتاب بعنوان: الحوار المذهبي. وقد سعدت كثيراً بالمشاركة في كتاب يتغيا وحدة هذا المجتمع، ويسعى لايضاح وجهات نظر كل فريق. وكل حديثي في ذلك الكتاب عن: وحدة المتنوع الإسلامي، حاولت فيه - جاهداً - ان أقدم تصوراً عن امكانية تجاوز الخلافات المذهبية، ليس بتجاهلها، وإنما بفهم أبعادها التي أوصلتها إلى ما هي عليه اليوم، مما يجوز تسميته بحالة: الاخوة الأعداء.
مثل هذا الإصدار، ذي البعد الحواري لابد أن يتكرر ولابد أن تشارك فيه كثيرمن الاسماء، وأن تكون المواضيع براهنية وليست تاريخية. وحبذا لو تحول مثل هذا الإصدار إلى دورية فصلية، ليضمن لها الاستمرار ومتابعة الجديد على مستوى العلاقات الطائفية والمذهبية، إيجاباً وسلباً.
وقدرما تسعدنا مثل هذه الإصدارات التي تجنح لتعزيز قيم التسامح، فإن شيئاً من الألم يخالط هذه السعادة؛ لأنها خطوات كان من المفترض ان نكون قد قطعنا فيها أشواطاً كثيرة، ولعقود من الزمن، لا أن تكون خطوات على استحياء، في القرن الواحد والعشرين.
ومثل هذا الإصدار، الزيارة الكريمة التي قام بها الشيخ: محمد الصفار لمنطقة القصيم، بدعوة من محافظ عنيزة. لقد سعدت بلقاء الشيخ: محمد الصفار، إبان زيارته وإن اقتصر اللقاء على ساعات محدودة، إلا ان فرحتي بلقائه كانت منقوصة، فإحساسي وإحساسه أنها خطوة رائعة منه ومن محافظة عنيزة، يجعلنا أمام حقيقة الهوة التي تفصل بين أبناء الدين الواحد والوطن الواحد. هل كان ينبغي الانتظار حتى هذه اللحظة حتى تكون مثل هذه الزيارة، والتي كان من المفترض انها تتم - وبشكل طبيعي - منذ عقود؟!. ولكم كنت أود أن يكون الشيخ: محمد الصفار، ليس مجرد زائر، وإنما زائر ومحاضر، يسمع منه أبناء المنطقة، ويحاورنه. ولعل هذا يحدث في مستقبل الأيام.
إن مثل هذه الخطوات، لا شك انها تساعد على حلحلة الرؤى التقليدية التي تتمترس خلف مقولاتها التاريخية. ومن المجدي ان تتكرر، وان تكون أكثر جرأة وشجاعة، لأنها لابد أن تواجه برفض المتطرفين من كلا الطرفين. ولعل حديث الشيخ: حسن الصغار، على "الجزيرة مباشر" قبل اسبوعين، عن علاقة السلفية بالشيعة، ليس إلا إسهاماً مباشراً في هذا المضمار. خاصة وان كلام الشيخ حسن عن السلفية كان منصفاً، حينما لم يعمم التطرف على التيار السلفي كافة، وإنما حصر الموقف في: "بعض" السلفيين، و"بعض" الشيعة. ومهم جداً ان يتحدث رمز بحجم الشيخ: حسن، عن السلفية بهذه الصراحة وبهذا الوضوح.
تحديد واقعة الجريمة "التكفير هنا" بالفاعل المباشر، وعدم تعميمها لتطال اتجاهاً عاماً عريضاً، يساعد على محاصرة الظاهرة: التكفير. وهذا ما فعله الشيخ: حسن، مع انه كان بإمكانه أن يستعين بشواهد كثيرة، يستطيع من خلالها تجريم الكثيرين، إلا أنه فضّل أن يكون خطا به خطاب في التسامح والتجاوز، وليس خطاباً في الاتهام، وتوسيع دائرة العداء. ولو أن بعض من يختلفون مع الشيخ الصفار، في الاتجاه المقابل، ركزوا في اتهاماتهم على الغلاة عند الطرف الآخر، ولم يعمموا التكفير، لأمكن أن نتقدم خطوة إلى الأمام، لنصنع المجتمع المتنوع المتسامح، بعيداً عن تشنجات المتطرفين، من الغلاة ومن التكفيريين.