حتى يستمر زواج المذهب والوطن
من الأخطاء الشائعة في المسألة المذهبية النظر إلى الشيعة نظرة كلية جامعة، غافلين عن الخصوصية الجغرافية التي تجعل لكل بلد تجربة مميزة.
وحين نقترب من شيعة المنطقة الشرقية في السعودية نلمس حالة أملتها وفرة الموارد الطبيعية والاقتصادية وسلام اجتماعي في منطقة كانت دوما محطة للعبور ومرافئ اتصال بالآخرين.
صحيح أن الغرف المغلقة في بعض بيوت الشيعة بهذه المنطقة ترصعها صور السيستاني وحسن نصر الله ، كما أن قسما مهما من أموال الخمس قد يسافر إلى إيران والعراق، وتبدو إيران حاضرة في حديث المفاخر والمآثر كدولة شيعية فتية، وهي مظاهر كفيلة بأن توحي للناظر على عجل بأن الاتصال بالمذهب يتجاوز حدود الوطن.
لكن يبقى المكان متميزا في جوهره عن باقي الفضاء الشيعي في دول الجوار، وتبقى العلاقة مع الأكثرية السنية تجربة نموذجية في المسالمة والعيش الآمن، لم تأخذ من حروب لبنان والعراق ما يعكر الصفو، ولا تهتم من قريب أو بعيد بدموية التشاحن الطائفي في باكستان والهند.
يفسر الشيعة من أبناء المنطقة تلك الحالة المسالمة بأنها تعود إلى طبيعة المجتمع الشيعي في الخليج الذي اتسم عبر القرون بالاستقرار وحسن المعايشة ومرونة التكيف مع متغيرات العصر ونظم الحكم، يزيد بعض الشيعة ممن يجلدون الذات بأن السبب يكمن في السلبية والاستسلام، ويضعون التهمة في عنق شيعة الأحساء على وجه الخصوص.
بينما يرجع السنة في هذه المنطقة الفضل إليهم، فالسلام الاجتماعي يعود إلى قبولهم الاختلاف المذهبي طالما بقي في حدوده المغلقة ولم يسع إلى الإعلان عن نفسه علانية بما يثير الأغلبية ويستفزهم، خاصة في تلك المناسبات المثيرة للمشاعر، المليئة بالصراخ والبكاء والخروج الجماهيري.
الفاعل الثالث في هذه المعادلة والذي لا يظهر على السطح، يتمثل في السياسة الداخلية للدولة السعودية التي نجحت في الإمساك بزمام الأمر وجعلت السني والشيعي يجلسان إلى جوار بعضهما البعض في قاعة الدرس، ويتكاتفان في المصنع وحقل التنقيب عن النفط، ويتزاحمان في الأسواق الثرية بكل صنف، من العطور والذهب إلى الخضراوات والأقمشة.
في السنوات الأخيرة كان لصعود نجم حزب الله في لبنان ووصول الشيعة إلى سدة الحكم في العراق تأثير مهدد لحالة التصالح في المنطقة الشرقية من السعودية.
تخوف كثيرون من أن يثير ذلك حمية بعض الشيعة فيحاول -مغامرا- الاقتداء بالتجربتين، بينما تخوف فريق ثان من أن تقع أحداث انتقامية ردا على الأحداث الطائفية في العراق، وبصفة خاصة مع تداول الأخبار والتقارير عما يلاقيه السنة في أرض الرافدين.
أشباح الخارج عادت مرة أخرى للتأثير على حالة المجتمع المتصالح، وباتت أقرب إلى تكرار التجربة التي عاشتها منطقة الخليج عبر قرون خمسة.
فباستثناء مصدر التوتر الداخلي الذي واجهه الشيعة في شرق السعودية مع الموجات المتقطعة لصعود الحركة السلفية الوهابية خلال القرن الـ19، كانت تهديدات الخارج دوما مصدر التوتر الرئيسي.
ففيما بين القرنين الـ16 والـ18 كاد الصراع العثماني الصفوي يعصف بحالة الاستقرار الشيعي في هذه المنطقة، ولم يكن هذا الصدام بين أبناء المذهبين بل بين السلطة والرعايا.
وفيما بين القرنين الـ18 والـ19 حين انشغل العثمانيون بالتمرد في أوروبا الشرقية والحروب الروسية، لم تعد المسألة المذهبية تجد لها مكانا في خريطة الصراع، فعاد الهدوء والاستقرار إلى شيعة الخليج والأحساء من جديد.
وباستثناء سنوات قليلة أعقبت الحرب العالمية الأولى، حين أطل التهديد الداخلي من جديد مع مجاهدي الإخوان الذين ناصروا الدولة السعودية الثالثة، عاش الشيعة في المنطقة الشرقية من السعودية عقودا طويلة من الاستقرار والتعايش قبل أن يأتي مصدر تهديد جديد -قومي ماركسي هذه المرة- مع وفود الأفكار الناصرية والشيوعية والبعثية.
وبعد خيبة المشروعات الناصرية والشيوعية في مواطنها وقبل أن تنعم المنطقة بالهدوء عاد التهديد الإيراني من جديد، مغيرا اسمه هذه المرة من الصفوي إلى الإسلامي الثوري.
هز سقوط بغداد في أيدي الشيعة الاستقرار الآمن في هذه المنطقة الخليجية، وعادت من جديد تلك الكتب التي تذكر السنة بأن بغداد سقطت من قبل أمام التتار بسبب تعاون الشيعة مع أعداء الخارج، وأحيت من التاريخ شخصية الوزير الشيعي في العصر العباسي مؤيد الدين بن العلقمي المتهم بتسليم مفاتيح بغداد للأعداء.
وبشكل متزامن ساهم نجاح حزب الله في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان «والاحتفاء به إعلاميا من قبل الصحافة السنية» في زيادة مخاوف السلفيين في السعودية من آثار ما يجري على الداخل الشيعي، وبصفة خاصة مع مبالغات بأن هناك نسخة من "حزب الله السعودي" تعمل تحت الأرض.
بوسعنا الخروج من دروس التاريخ الماضية بنتيجتين مهمتين:
- أن التوتر لم يكن في أي فترة عند المستوى الشعبي، فلم يكن يوما صراعا سنيا شيعيا بل في أساسه بين السلطة والشيعة. وجاءت أغلب الصدامات بسبب إحياء مناسبات شيعية بشكل علني أو بسبب مزارات مقدسة لدى الشيعة وفي قليل منها جاء بسبب تحويل قسري عن المعتقدات.
- أنه في كل مرة تصعد فيها إيران وتقوى شوكتها تكون النتيجة عكسية على حالة الاستقرار الشيعي الداخلي.
ظهر في السنوات الخمس الأخيرة تيار شيعي يسعى إلى الحوار الداخلي والتأكيد على أن الشيعة لم يفاضلوا يوما بين المذهب والوطن. واتضحت معالم هذا التيار عبر مجموعة الحوارات التي أجراها الصحفي السعودي عبد العزيز قاسم في جريدة المدينة مع الشيخ الشيعي الشهير حسن الصفار الذي أخرجها في كتاب "المذهب والوطن" عام 2006.
يتسم الشيخ حسن الصفار بحضور لامع في الساحة الفكرية السعودية، باعتباره أحد رموز مشروع الحوار الوطني والتقريب بين المذهبين. لكن دوما ما ترافق مشروع الصفار خلافات جذرية بين صقور وحمائم المذهبين.
فالانفتاحيون الشيعة يرونه حلقة وصل مهمة لاختراق الحصار المفروض حولهم سياسيا وإعلاميا، ويحلم البعض منهم أن يحصل الصفار على لقب أول وزير شيعي في الحكومة السعودية.
والانفتاحيون السنة يرونه بالمثل جسرا للتفاهم، وخطيبا مفوها يعرف كيف يدمج أبناء طائفته داخل حدود الوطن، ونافذة ضرورية للإطلال على المجتمع الشيعي شبه المغلق.
لكن على الطرف الآخر لا يرى المتشددون الشيعة في مشروع الصفار سوى مضيعة للوقت، بل ينتقدون كشفه كثيرا من الأوراق وتقديمه تنازلات لم تعد بفائدة.
ومن جانبهم لا يصدق السلفيون ما يؤكده الصفار من أن الشيعة لا يسبون الصحابة، وليس لديهم قرآن مغاير، وأن ولاءهم للوطن لا ينافسه الانتماء للمذهب.
فالسبب لديهم بسيط إذ كل ما يقوله الصفار تقية ومداراة، بعدما انتقل الرجل من خندق المعارضة في الخارج إلى أروقة الحوار في الداخل.
ينطلق مشروع التقارب الذي يقوده حسن الصفار من مبدأ "الوحدة مع التنوع".
فالتنوع والاختلافات الفكرية بين الشيعة والسنة في أغلبها تفيد حراك المجتمع الإسلامي أكثر ما تضره، ووحدة المسلمين المذهبية لا تأتي بصهرهم جميعا في رأي واحد بل تقوم على أعمدة ثلاثة: الاحترام المتبادل وتكافؤ الفرص والإطار المشترك في تحقيق مصالح نافعة للطرفين.
القرون الطويلة التي مرت في التاريخ الإسلامي تثبت أن كافة مشروعات الصهر والتذويب قد باءت بالفشل، لابد إذن –يقول الصفار– من اعتراف كل طرف بالآخر بتنوعه العقدي، فالرهان على تغيير قناعات الآخر المذهبية محض أوهام.
لا يقف مبدأ تكافؤ الفرص لدى الصفار عند مفاهيم التوظيف والعمل والدراسة، بل يرى أنه ليس من الإنصاف أن يمارس الطرف السني كل شعائره في وضح النهار ويمارس الطرف الآخر شعائره في تستر وكتمان.
ولأن أوضاع الشيعة في الخليج ذات خصوصيات تاريخية وجغرافية وسياسية تختلف عن بقية أوضاعهم في جنوب آسيا والمشرق العربي، يدعونا الصفار للنظر إلى الكارثة العراقية باعتبارها حربا سياسية سببها نزاع سلطوى وسياسي، ولا داعي لاستيرادها إلى الخليج، فمن الخطأ الجسيم مذهبة الصراع السياسي.
وقبل أن يساور البعض الشك في المقاصد الطوباوية للوحدة وحقيقة مآربها، يؤكد الصفار أن الوحدة بين السنة والشيعة ليست مساومة تكتيكية بل هي مذهب آل البيت ومصلحة لكافة الأمة.
قبل أكثر من نصف قرن انتقد الكاتب الشهير في عصره محب الدين الخطيب في كتابه الذي أثار حفيظة الشيعة "الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الاثني عشرية" الجهود التي تقوم بها القاهرة للتقارب بين المذهبين، متسائلا "لماذا يتحتم على عاصمة أهل السنة السعي للتقارب مع الشيعة ولا يسعى الشيعة إلى التقارب؟".
هذا التساؤل أسمعه بشكل عكسي من الأصدقاء الشيعة في شرق السعودية: لماذا يدعوننا إلى الاقتراب من السنة والانفتاح عليهم والتخلي عن بعض المعالم الرئيسية في الفكر الشيعي دون مقابل من الطرف الآخر؟
يبدو لي من خلال معايشة تلك التجربة الثرية، أن أغلب المعلومات الموروثة لدى الطرفين استقاها كثير من الأتباع من الدروس الشفهية والجلسات العائلية وليس عن علاقة مباشرة بين الطرفين أو من مناقشة هادئة مستندة إلى التدبر والفهم.
وإذا أردنا تلمس أسباب القطيعة الحوارية بين قطاعات واسعة من أبناء المذهبين في تلك المنطقة نجد أهمها في:
1- التوزيع الجغرافي لمناطق السكن الشيعي التي تجعل مدنا وبلدات كاملة وأحياء بأسرها شيعية خالصة لا يسمع فيها سوى الصوت الشيعي ويصعب تغيير الصور النمطية عن الطرف الآخر.
2- خطأ التعميم الذي يقع فيه بعض السنة حين يضعون كل الشيعة من أهل المنطقة في سلة واحدة فلا يفرقون بين الشيعة المعتدلة والشيعة ... الذين تسببوا في تشويه بالغ للفكر الشيعي بأفكارهم المنحرفة.
3- ضعف ثقافة المراجعة، فما يقوله شيخ في حسينية عن أفكار أهل السنة يقبل دون تمحيص حتى لو كان مليئا بالمغالطات ومفعما بالطائفية ولي عنق النصوص السنية.
وحين يسمي شيخ سني الشيعة بالروافض مستندا الى نص من كتب ابن تيمية لا يصححه أحد، فابن تيمية كان واضحا في تفرقته بين الروافض والشيعة.
والسبب هنا يعود إلى أنه ليس لدى أحد اليوم صبر للرجوع إلى كتاب ابن تيمية "منهاج السنة النبوية" في مجلداته الأربعة؟
4- بقايا الرفاهية الاقتصادية الموروثة عن عقد السبعينيات والتي تجعل الكل حريصا على عدم فقدان المزايا، فالسوق والتجارة لا تعرفان مذهبية، أما في القرية والحي فلكلٍّ مسجدٌ وشيخ.
الخطير هنا أن البعض يستمرئ حالة التصالح الصامتة استنادا إلى الآية الكريمة "لكم دينكم ولي دين" بغض النظر عن أنها نزلت في الكافرين وليس في أصحاب القبلة.
5- تأثير الفكر القبلي الذي لا يجد حرجا في إعلاء مكانة العشيرة والعائلة على ما سواهما.
مرة أخرى لا تكفي السطور السابقة إلا في إعطاء إطلالة عامة على منطقة مهمة من العالم الإسلامي عاشت سلاما راسخا بين أبناء المذهبين، وأفلتت -كعادتها عبر القرون- من تأثير العوامل الخارجية. لكن لكي يستمر الزواج الناجح بين المذهب والوطن، لا مفر من مكاشفة جادة وحوار فعال بين الطرفين.