أول عمامة شيعية.. في القصيم!

لو شئنا الحديث وفق منطق «غينيس» للأرقام القياسية، لجاز لنا القول بأن الأستاذ الشيخ محمد الصفار ومن خلال زيارته الأسبوع الماضي لمنطقة القصيم للمشاركة في مهرجان عنيزة للتراث والثقافة، كان المعمم الشيعي الأول الذي يحظى بهذا المستوى الملفت من الضيافة والترحيب، في منطقة اشتهرت -ظلماً- بجميع ما هو مناقض للانفتاح وقبول الآخر المختلف مذهبيا ودينيا.

لا يخفى بأن جدرانا كثيرة، عازلة.. وعالية جدا قد بنيت مع مرور الأيام، فصارت تفصل بين أطياف الوطن الواحد، وأن جبالا من الأوهام تراكمت مع الأيام حتى زرعت بذور الشك والريبة بين المكون والآخر، وبين المنطقة والأخرى، وبين أبناء المذهب والآخر.. بل وبين أتباع المذهب الواحد أحيانا.

إلا أنه سرعان ما يسفر المشهد عن شكل آخر مع تقشع الأوهام المختلقة، وتقطع حبال الأغاليط المخترعة، ودكدكة جبال الأساطير المفتعلة، والتي قد لا تكون أكثر من زبد سرعان ما يذهب جفاء ليبقى ما ينفع الناس.

وليس من باب التندر أن نشير إلى أنه لا يوجد داعية ولا إماما مسلما واحدا في الشرق والغرب إلا ويتغنى بسماحة الدين والرفق بالآخرين والتسامح مع المغايرين، وفق تعاليم الشرع والقرآن الحكيم، إلا ان كل ذلك يبقي عند المحك أقرب الى الكلام النظري المجرد، والإيقاع الصوتي الذي لا يزيدنا إلا قناعة بأنا لسنا إلا ظاهرة صوتية.. إلا أن تأتي خطوة صادقة بكل المعاني فتخرق جدار الصوت هذا، عبر ممارسة الانفتاح الحقيقي، والتسامح الفعلي على أرض الواقع، لا مجرد أقوال على أعواد المنابر. ولقد جاءت زيارة الشيخ الصفار لمنطقة القصيم شيئا من هذا القبيل.

لي أن أقول هنا بأن زيارة الشيخ محمد لم تكن لتتجاوز بعدها الرمزي وطقوسها البرتوكولية لو كان الشيخ في ضيافة أهالي أي منطقة أو مدينة سعودية أخرى، أما وقد كان في منطقة القصيم تحديدا، فتلك قصة أخرى يطول المقام في تعاطي دلالاتها..
 
فجميعنا يعلم جيدا أن منطقة القصيم كانت على الدوام منطلق السلفية التقليدية في المملكة، والتي لا يتردد خصومها في وصفها بالتشدد الديني. وفي المقابل لا يخفى أن المنطقة الشرقية والتي جاء منها الشيخ كانت على الدوام الحاضنة الأم والأوسع للتشيع في المملكة، والتي لا يتردد الخصوم أحيانا في وصمها بالتعصب المذهبي هي الأخرى، فالمنطقتان وفقا للتصنيف العقدي، ليستا متنافرتين فحسب، بل هما للتصادم أقرب. سيما وقد ابتليت البلاد طوال العقدين ونيف الأخرين بمن يدين الله بتكفير الآخر، والنيل من رموزه، وهتك مقدساته، لا تأخذه في المختلفين معه إلاً ولا ذمة..حتى قلب هؤلاء شرع الله بيننا، شعوبا وقبائل، من «لتعارفوا» إلى «لتنازعوا» حتى كادت تذهب ريحنا..

أكاد أجزم، بأن الكثيرين منا لا يعلمون من أمر منطقة القصيم إلا تلك الصورة النمطية التي طالما عكستها الوجوه الغاضبة والحواجب المقطبة التي لم تفتأ تعطي لنفسها الحق المطلق في توزيع البشر بين الجنة والنار، حتى كشف لنا الشيخ محمد في لقاءاته وعبر مقالته الأخيرة بأن هناك على الضفة المقابلة ما يستحق عناء التلاقي، وأن هناك من هو جدير بالتقدير ومن هو أكثر استحقاقا بالاحترام، ومن هو خليق بالمعاشرة الحسنة.. بعيدا عن عناوين الخلاف أو لافتات الاستفزاز، عدى عن مقدس واحد وهو المشتركات الانسانية والدينية والوطنية التي لا تحصى مع هذا الآخر.

ولعل أكثر ما يلفت هنا هو أن أجواء الضيافة الطيبة والمشاعر الصادقة التي حظي بها الشيخ بين أهله واخوانه في قلب منطقة القصيم عنيزة وبريدة، لم تكن تلك على مستوى النخبة فحسب، ولا هي بين أقران الثقافة أو معارف الزمن، بل كانت من مختلف المستويات والشرائح، الرسمية والأهلية، النخبة والعامة، حتى غدت العمامة الشيعية الأولى التي تزور تلك المنطقة حديث المجالس ومحل الترحاب أينما حلت، في مشهد ربما لم يكن يتخيله الواحد منا في هذه المنطقة سوى في الاحلام مقارنة بالصورة النمطية المعروفة عن تلك المنطقة.

نعرف أنه وعلى مدى سنين طوالا ظل هناك على هذه الضفة أو تلك من يعمل على أسطرة المقولات والمزاعم والأوهام بين الفئات والجماعات المختلفة، والأفرقاء المختلفين حقيقة أو وهما، ليبقى المستفيد الأول والأخير هم اؤلئك الأكثر حماسة وتواطئا وحرفية في أسطرة وتمرير تلك الأوهام.. وليبقى الضحية دوما هم السواد الأغلب من الناس.

زيارة الشيخ وعلى رمزيتها المغرقة فقد أزاحت الأستار عن عيون الكثيرين منا، حول مجتمع جميل ورائع كمجتمع عنيزة، هذه العنيزة التي أبت إلا أن تحافظ على انفتاحها وتسامحها واستيعابها للآخر المختلف وأن تستقبله من أوسع الأبواب.

ولا يعيب المنتسبين لتلك المنطقة أن وجد من بينهم متشددون دينيا، فهم ليسو بدعا من المجتمعات، بل أزعم بأني سأضيف جديدا للكثيرين لو قلت بأنه وكما شاع عن القصيم عموما بروز التشدد الديني، فهي في الوقت ذاته كانت رائدة الليبرالية السعودية، ودونكم أسماء أبرز رموز الليبرالية السعودية، تمعنوا فيها، وراقبوا انتسابها المناطقي والقبلي، فلا أريد التفصيل هنا ولا حاجة لذكر الأسماء، لأن الليبرالية لا زالت تهمة «مخلة بالآداب»، يستتاب فاعلها بنظر البعض في تلك المناطق! وحسبي القول هنا؛ ترحموا على عبد الله القصيمي فلقد عاش غريبا.. ومات غريبا.

ختاما لا يسعنا الا القول بأن الكرام الذين استقبلوا الشيخ محمد الصفار في عنيزة أو بريدة، لم يستقبلوا في حقيقة الأمر شخص الشيخ بذاته، بل استقبلوا واستملكوا قلوب مئات الآلاف من أبناء منطقته، لأنهم رأوا في استقبال وتكريم شخص الصفار استقبالا وتكريما لهم جميعا، وليدركوا بالملموس بأن هناك مجتمعا على الضفة الأخرى، والذي أراد له البعض أن يكون فزاعة دينية تجاه اخوانه في الدين وأقرانه في الوطن، ظل هذا المجتمع في شطره الأوسع مفعما بالحياة واحترام التنوع والتوق إلى التعايش السلمي كسائر خلق الله الأسوياء.

كاتب وباحث سعودي.
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 3
1
حسين الجابر
[ الأحساء - السعودية ]: 16 / 4 / 2007م - 2:59 ص
بارك الله فيك ياشيخ وكثر الله من امثالك، كما نحن بحاجة لمثل هذه المبادرات التي تقوي اللحمة الوطنية وتزيد ابناء المجتمع تماسكا وقوة.
2
عماد
[ الشرقية ]: 18 / 4 / 2007م - 12:11 م
الخبر لاشك مفرحا ولكن !
لم نعرف انطباعات طلاب علومهم هل مؤيدين ام لا ؟
3
حسن طاهر العبدالله
[ الاحساء - قرية بني معن - الاحساء ]: 18 / 4 / 2007م - 2:39 م
بسم الله الرحمن الرحيم
بارك الله فيك ياسماحة الشيخ وكثر الله من امثالك انا كنت منذو زمن بعيد اتمنى ان نشارك اخوننا اهل السنة افراحهم واحزانهم وان نكون يد واحدة ضد الطائفية المنحطة فأالسنة والشيعة اخوان ما دامو يشهدون ان لااله الا الله وانا محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله نحن ابناء وطن واحد والشيعة والسنة منذو عصور مضت هم اخوانا ولا نقبل بغير هذا الكلام فأن على سبيل المثال كل اصدقائي وزملائي من اهل السنة نتزاور ونأكل كل من بيت الثاني ونعيش كفرد واحد نحن ضد المتشددين في الدين من كلا الطرفين نسأل الله المولى عز وجل انا يجمعنا على دروب الخير وان يجمع شملاً ويوحد كلمتنا على التقوى وينصرنا على اعدائنا انه سميع مجيد لا لي الفرقة لا لي الطائفية يد واحدة سنة وشيعة ضد كل من ارد الفتنة بينا والسلام
كاتب وباحث سعودي