المذهب أو الوطن.. لمن ولاء شيعة السعودية؟
لمن يكون ولاء الشيعة في المنطقة؟ هل لمذهبهم ومرجعيتهم؟ أم للوطن الذي نشئوا فيه ويحملون جنسيته؟ وهل اعتناق مذهب معين يصادر الانتماء للوطن ويؤثر على الهوية لجموع المواطنين؟
تبدو هذه الأسئلة الكبرى ذات قبول هذه الأيام في طرحها عن أوقات سابقة بفعل الضغط السياسي في العراق وحالة الاحتقان المذهبي المتصاعدة، ومن ثم كان الواقع قابلا لطرح تلك التساؤلات.. ولذا لم يكن غريبا أن يصدر كتاب «المذهب والوطن» وهو مجموعة حوارات أجراها الصحفي السعودي الدكتور «عبد العزيز قاسم» مع الشيخ «حسن الصفار» أحد كبار علماء الشيعة السعوديين.
والملاحظ أن غلاف الكتاب بل وعنوانه يطرح التساؤل نفسه، فالعنوان قدم المذهب على الوطن، وقد لا يكون وراء ذلك دلالة مقصودة لكنه يحمل بين طياته قدرا من الهواجس الموجودة في نفوس البعض ممن جمعهم الوطن الواحد وتنوعت مذاهبهم، كما جاء غلاف الكتاب بصورة تجمع بين الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز والشيخ حسن الصفار وبينهما نظرات تعكس قدرا من الدفء والسماحة.
والكتاب عبارة عن خمسة حوارات صحفية مطولة أجراها الدكتور «قاسم» مع الشيخ «الصفار» ونشرت في ملحق الرسالة بجريدة المدينة (أكتوبر2004م) تحت عنوان "مكاشفات" وأضاف إليها الشيخ الصفار مقدمة يحدد فيها أهداف الحوار وفي مقدمتها توفير فرصة للتعارف المباشر بين أبناء الوطن من السنة والشيعة لتجاوز مرحلة الظنون والنقول، وإزالة ما خلفته الأحداث السياسية على العلاقات بين الجانبين.
ويلاحظ أن الشيخ الصفار عندما تناول قضية التعايش كان منطلقه ومدخله إليها تاريخيا حيث رصد واقع المنطقة التي يعيش فيها (وهي القطيف) والتي كانت مثالاً للتعايش بين السنة والشيعة.
يرى الشيخ الصفار أنه مع بداية تشكيل أجهزة الدولة في السعودية لم تكن هناك مراعاة لخصوصية المجتمع الشيعي، وهو ما نتج عنه أن يصطدم الشيعي بهذه القوانين التي لا تراعي خصوصيته؛ إضافة إلى أن الذين شغلوا هذه الدوائر الرسمية والحكومية خاصة القيادات كانوا غالبًا من غير أهل المنطقة، فبدأ الشيعة يشعرون بحساسية تجاه هذا الأمر، إضافة إلى أن انتصار الثورة الإسلامية في إيران أوجد نوعًا من التعبئة الطائفية؛ فالشيعة ارتفعت معنوياتهم، وبدءوا يتفاعلون مع ما يطرح هناك، أما السنة فتعبَّئوا ضد الشيعة دينيًا وثقافيًا، وهو ما أوجد نوعًا من التشنج من الطرفين.
وترتبت على هذا التشنج نشوء المعارضة داخل الوسط الشيعي بل هناك من استقر خارج البلاد خاصة في إيران، ويشير الصفار إلى أن الإيرانيين في تلك الفترة كانوا منشغلين بأنفسهم سواء بمشاكلهم الداخلية أو علاقاتهم المتأزمة مع الأمريكيين، ناهيك عن حربهم مع العراق وحسب رأيه فلم يكن الإيرانيون يملكون أي توجه لتبني دعم المعارضة الشيعية السعودية، أما شيعة المملكة الذين استقر بهم المقام في إيران فسعوا لتكوين علاقات جيدة مع بعض العلماء والقيادات الثورية "لتمشية" بعض الأمور الخاصة بإقامتهم، ولم يبد الإيرانيون أي اهتمام بالوضع في المملكة إلا بعد أحداث الحج (1408هـ -1987م ) التي وقعت فيها صدامات بين الأمن السعودي والحجاج الإيرانيين، وعندها قرر عدد من المعارضين الشيعة السعوديين المقيمين في إيران الخروج حتى لا يكونوا أداة في أي صراع قد يقع بين طهران والرياض، وانتقل هؤلاء إلى سوريا.
ويشير الصفار أن تأييده للثورة الإيرانية جعل البعض يعتبره «خميني القطيف» برغم أنه نظر للثورة الإيرانية –كغيره من الإسلاميين- على أنها إنجازٌ متقدم للصحوة الإسلامية، لكنه تأسف لأن النظرة الطائفية من جهة وتأثير الإعلام الأجنبي من جهة أخرى جعلا التفاعل مع الحالة الإسلامية الإيرانية محل تساؤل ومثار استفهام، إلا أنه رفض وصفه بأنه «خميني القطيف» ورأى في ذلك الاتهام نوعًا من التسطيح والتبسيط؛ لأنه لا وجه للمقارنة لا في الصفات الشخصية، ولا في نوعية البيئة الاجتماعية، ولا من حيث طبيعة الظروف بينه وبين «الخميني» إلى جوانب عوامل كثيرة أخرى من الاختلاف والتفاوت.
يعتبر الصفار أن مجرد السؤال عن علاقة الشيعة بأمريكا هو من قبيل المزايدة على الشيعة وهو أمر مرفوض؛ لأن الشيعة -على حد قوله- هم أول من بدأ المواجهة مع الأمريكيين في الشرق الأوسط وليس السلفيين، ففي الوقت الذي كان فيه تحالف بين الجهات السنية والأمريكيين فيما يرتبط بأفغانستان، كان الشيعة في إيران ولبنان ومختلف المناطق يعلنون الرفض والمواجهة للأمريكيين. وإذا كان الوضع في العراق قد سبب انفتاح بعض الشيعة على الأمريكيين؛ فإن ذلك يأتي بعد أن "شبعت" جهات سنية كثيرة من التعامل مع الأمريكيين، وفي سنة العراق مثل ما في الشيعة جهات تهادن وجهات تقاوم فلا داعي لإعطاء المواقف السياسية صبغة مذهبية".
وأشار الصفار إلى أن الشيعة في السعودية بادروا برفض التدخل الأمريكي في الشئون الداخلية للملكة بعد صدور تقرير الخارجية الأمريكية عن الحريات الدينية في المنطقة؛ ورأوا أن السبيل لمواجهة هذه الادعاءات يكون من خلال معالجة الثغرات ونقاط الضعف والجد في مسيرة الإصلاح والتطوير، وتغليب الوحدة الوطنية، وتجاوز آثار الصراعات المذهبية والتمييز الطائفي.
وتساءل الصفار: لو أن شخصا من الشيعة أساء وارتكب خيانة فهل كل الشيعة في تاريخهم يحاسبون على ذلك؟ أليس في أهل السنة من الحكام والسياسيين وغيرهم من انحرف وأساء وخان؟ فهل يصح اتهام كل السنة بالخيانة؟
وأكد أن المراهنة على الأمريكيين مراهنة على سراب؛ فالأمريكيون لا يهتمون إلا بمصالحهم، فلم يأتوا من أجل الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، وبالتالي فلن يأتوا من أجل حماية هذه الأقلية أو تلك، ولذا لابد أن تكون هناك مبادرة داخلية للإصلاح السياسي.
والسؤال الأهم الذي يطرحه الكتاب هو لمن يكون الولاء السياسي للشيعة في السعودية هل لمراجعهم الدينية المتعددة في النجف وقم ولبنان أم للدولة السعودية؟
وهنا يؤكد الصفار أن المرجع الديني لا يقرر للشيعة في بلدانهم مواقفهم السياسية وشكل علاقتهم مع حكومتهم ومجتمعهم لأمرين:
الأول: عزوف أغلب مراجع الشيعة عن التدخل في الشئون السياسية وتصديهم لدور الإفتاء في المسائل الشرعية، بحيث أصبح الارتباط بين الجمهور الشيعي والمرجع ضمن هذه الدائرة.
الثاني: قد يتصدى المرجع الديني للشأن السياسي في وطنه؛ لأنه صاحب رأي في الموضوع أو لاستدعاء الظرف لذلك، لكنه لا يتدخل أبدًا في الشئون السياسية للبلدان الأخرى، وإنما يترك ذلك للقوى الشيعية الموجودة في تلك البلدان، لأنهم أعرف بظروف بلادهم.
وأكد الصفار أن المجتمعات الإسلامية سنة وشيعة تأخذ العلم الشرعي من العلماء الثقات أينما كانوا فالحدود السياسية لا تمنع الاستفادة من علمهم ورأيهم، فشيخ الأزهر–مثلا- يأخذ برأيه مسلمون خارج مصر، وكبار العلماء في المملكة كالمفتي الراحل ابن باز، يأخذ برأيه مسلمون في بلدان مختلفة، والشيخ يوسف القرضاوي أصبحت له مكانة مرجعية في بلدان إسلامية كثيرة، ولا أحد يعتبر أن أخذ العلم الشرعي من فقيه معتمد خارج البلاد يشكل تبعية سياسية.
تأتي قضية الاندماج والتعايش الوطني بين الشيعة وغيرهم في السعودية كمحور مهم في الكتاب، حيث يرى الصفار أن الاندماج الوطني قضية ملحة يجب تحقيقها لهذا الوطن لكن الحرص الطبيعي والمشروع لكل مجتمع على خصوصياته يقتضي احترام هذه الخصوصيات، وأن تتسع بوتقة الوطن للجميع من خلال التأكيد على القاسم المشترك والهوية الوطنية الواحدة التي تحترم الخصوصيات، كما أن وجود ثقافة تنال من الآخر الوطني وتعبئ ضده نظرًا للاختلاف المذهبي أو الفكري يعوق تحقيق الاندماج الوطني.
وأشار الصفار إلى أنه ألقى الكثير من المحاضرات داعيا أبناء الشيعة إلى الانفتاح أكثر على محيطهم وإبراز ولائهم الوطني، وكتب في ذلك الكثير من الكتب والأبحاث، و أشار أيضا إلى أن الساحة السعودية أصبحت أكثر من ذي قبل تهيئة لتحقيق حالة الاندماج، أما شروط هذا الاندماج فتأتي في مقدمتها ضرورة عدم التمييز في المناصب القيادية على أساس طائفي، وأن يتم الاختيار للمناصب بناءً على الكفاءة وليس التمييز الطائفي.
وتأتي قضية المناهج التعليمية كأولوية في اهتمام الصفار لتحقيق الاندماج والتعايش؛ حيث طالب بجعل التعليم خاصة في مراحله الأولى يركز على المشتركات، وألا يكون هناك دور تبشيري للمعلم على التلاميذ الصغار، وأنه إذا كانت هناك مصلحة في ذكر رأي المنهج الرسمي السائد فلا يكون هناك تركيز على التحريض ضد الآخر؛ مثل وصف الطرف الآخر بالشرك والابتداع، مع ضرورة مراعاة خصوصية الشيعة خاصة في المجال الديني والثقافي من حيث التشريعات والقرارات.
أما فيما يتعلق بالمذهب الشيعي وطبيعة الاختلافات مع أهل السنة فقد كان لها نصيب كبير أيضا في الكتاب حيث تناول مواطن الخلاف بين الطائفتين، وعلى رأسها مسألة الإمامة، والتي تفرعت عنها كل الاختلافات، حيث يعتقد الشيعة بالنص على إمامة "علي بن أبي طالب" رضي الله عنه من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن "علي" هو الأولى بالخلافة، كما أن الشيعة لا يأخذون إلا ما ورد عن أئمة أهل البيت أو ما يوافقهم، في حين أن السنة يأخذون عن الصحابة.
أما مسألة سب الصحابة فيرى الصفار أنه لا يجب أن تتم المحاسبة على الآراء والتصرفات الفردية من قبل بعض العوام، أو من قبل جهات متطرفة من الشيعة، واعترف بأن بعض الشيعة مثلاً يسيئون كثيرًا بالتعرض للخلفاء بالسب أو الشتم، لفهم خاطئ لديهم أو رد فعل لمواقف متطرفة من السنة، ولا ينبغي أن يحاسب المذهب كله والطائفة كلها بذلك، وإلا كان الغرب محقًّا في محاسبة كل المسلمين والعرب، على تصرفات الإرهابيين والمتطرفين من المسلمين.
وأكد الصفار في حواراته أنه يرفض ويدين سب الخلفاء الراشدين والصحابة، ولا يقبل أي تبرير في سب الشيخين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وأضاف أن من يسبّ الشيخين من الشيعة هم إما متطرفون أو جاهلون، أما الحالة بصفة عامة عند الشيعة فلا تمارس ذلك ولا تقبله، ودعا لفهم ظروف حدوث هذه الظاهرة السلبية التي يجب أن يتم تجاوزها من خلال تحسين العلاقة بين السنة والشيعة، واحترام الرموز الخاصة بكل طرف، وأعلن براءته من مقطع صوتي له بثته أحد مواقع الإنترنت فيه نيل من الصحابة، معتبرًا أنه تسجيل مدبلج.
وتناول الصفار في حواراته حالة سوء الفهم لحقيقة وواقع الآراء الشيعية وذلك لعدم وجود الاطلاع الكافي على المصادر الشيعية، أو الاعتماد على النقول من الآراء الشيعية المتطرفة والشاذة، ومثال ذلك القول بتحريف القرآن الكريم، مع أن كتبهم في التفسير والفقه والعقيدة تصرح بالقطع بصيانة القرآن عن التحريف، كما أن واقعهم الفعلي على الصعيد الإعلامي والثقافي والاجتماعي لا شيء لديهم غير هذا القرآن المتداول بين المسلمين.
ومن التحفظات التي أوردها الصفار على المذهب ما يفعله الشيعة في عاشوراء من إسالة الدم وخدش رءوسهم بالخناجر ومظاهر أخرى تعطي صورة سلبية، وهى مورد خلاف في الطائفة فقد كتب أحد أبرز علماء الشيعة في لبنان وهو السيد محسن الأمين العاملي ضدها كما أصدر الخميني أمرا بمنعها لكن بعض مراجع الشيعة يؤيدونها.
ويلاحظ أن الشيخ الصفار نشر في نهاية المكاشفات عددا من مقالات والآراء الإيجابية حول تلك الحوارات وأغفل عددا من الآراء التي تختلف مع ما طرحه من أفكار ومواقف.